كأس العالم هي حدث عالمي، لكن إذا نظرنا بشكلٍ قريب إلى هذه البطولة عبر تاريخها، وتحديداً إلى طرفَي مبارياتها النهائية، تصبح الصورة أوضح، وتسقط كلمة «العالم» من الكأس، ففي النسخات الـ21 السابقة للعرس الكروي كانت الريادة والسيطرة لمنتخبات أوروبا وأميركا الجنوبية حصراً بحيث توزّعت الألقاب عليها، لا بل إن العرض النهائي لم يشهد حضور أي منتخبٍ من خارج هاتين القارّتين.آسيا كانت الأقرب، فالنتيجة الأفضل في تاريخ مشاركات منتخبات القارة الصفراء كانت في مونديال 2002 عندما بلغت إحدى الدولتين المضيفتين وهي كوريا الجنوبية الدور نصف النهائي قبل أن تسقط أمام ألمانيا وتحتل المركز الثالث في نهاية المطاف. في المقابل، لم ينجح أي منتخبٍ أفريقي في تخطي الدور ربع النهائي رغم أن القارة السمراء قدّمت نجوماً كباراً فرضوا أنفسهم مع أقوى وأهم الأندية الأوروبية، لكنّ المباراة النهائية بقيت عصية، واللقب العالمي حلماً بعيد المنال.

تبدّل موازين القوى
ربما بدأت موازين القوى تتغيّر مع سقوط بطلين سابقين للعالم هما الأرجنتين وألمانيا أمام السعودية واليابان على التوالي، ما يفرض تبديل الفكرة القائلة بأن هناك كباراً وصغاراً في المونديال، وبأن المنتخبات القادمة من خارج القارتين الأوروبية واللاتينية لا يمكنها تحقيق شيء، إذ إن كوريا الجنوبية أجبرت الأوروغواي على التعادل السلبي وكانت قادرة على الفوز عليها، تماماً كما فعلت تونس أمام الدنمارك، والمغرب أمام كرواتيا وصيفة النسخة الماضية، قبل أن تعود وتفوز أمس بهدفين نظيفين على بلجيكا ثالثة مونديال روسيا ايضاً.
سقط عامل الخوف عند المنتخبات «الصغيرة» وبات أيّ «كبيرٍ» في مرمى نيرانها


من هنا، بدأت الحسابات تختلف، وخصوصاً بعدما ظهرت المنتخبات التي حقّقت نتائج إيجابية، وتحديداً السعودية واليابان بصورة الشجعان بحيث إنها قلبت تأخرها بهدف إلى فوزٍ (2-1)، لتكشف عن ذهنيةٍ حاضرة لمجاراة أي منتخب، وعن إمكانات تخوّلها المضي قدماً في البطولة، وعن قوة شخصية يمكنها أن تسقط الحاجز الذي وُضع منذ زمنٍ بعيد ويصنّف المنتخبات بين كبيرٍ وصغير. واللافت أيضاً أن السعودية واليابان لم تستحقا الخسارة أبداً في المباراة الثانية أمام بولندا وكوستاريكا على التوالي، بل كانتا الطرف الأفضل في مجمل فترات اللقاءين.
ببساطة سقط عامل الخوف عند المنتخبات «الصغيرة»، وبات أي «كبيرٍ» في مرمى نيرانها، ولهذه المسألة أسباب عدة، منها إدراك المنتخبات الآسيوية والأفريقية بأنها وصلت إلى مرحلةٍ متطوّرة ستجعل منها قادرة على تغيير الصورة النمطية القائلة بأنها تتواجد في الحدث الكروي الأكبر فقط لإكمال المشهد، ولتكون جسر عبورٍ للأقوياء، ولتلعب دور «الكومبارس» لا أكثر.

الاحتراف هو الأساس
يمكن القول بأن لهذه الفورة الإيجابية أسباباً أساسية ترتبط بالجوانب الفنيّة، ففي حالة السعودية مثلاً، تعلّم «الأخضر» من أخطاء الماضي، ووصل بعد مرحلة بناءٍ إلى مستوى عالمي. وبالعودة إلى تصفيات مونديال 2014، لم ينجح السعوديون في بلوغ الدور النهائي المؤهل عن القارة الآسيوية، ليشرع بعدها القيّمون في وضع استراتيجية النهوض بالمنتخب.
استراتيجية لم تكن مرتبطة فقط بالكادر الفني للمنتخب الأول أو بمعسكراته وتدريباته بل ذهبت إلى أبعد من هذه المسألة، إذ ساهم في تطوّر اللاعب السعودي النقلة النوعية التي عرفها الدوري في المملكة، والتي خلقت مساحةً مهمة للاحتكاك مع لاعبين أجانب أصحاب مستوى مميّز، فكان أن أقرّ الاتحاد المحلي في وقتٍ سابق من السنة الحالية الاعتماد على 8 لاعبين أجانب في الفريق بدلاً من 4 لاعبين.
رقمٌ كبير ولافت جداً، ربما أضرّ بنظر البعض بفرص اللاعبين السعوديين، لكنه منحهم خبرةً وفرصةً أكبر لتطوير إمكاناتهم، فمسألة الاحتكاك بلاعبين متفوّقين في الخبرة لها فوائدها الإيجابية الأساسية.

نجم المغرب أشرف حكيمي يقبل رأس والدته بعد الفوز (ا ف ب)

أما في اليابان وكوريا الجنوبية والمغرب وتونس، فتبدو القصة مختلفة. هذه المنتخبات تستمدّ صورتها القويّة من خلال العدد الكبير للاعبيها المحترفين على أعلى مستوى في كرة القدم الأوروبية. واللافت أنه في كل مرّةٍ ارتفع فيها عدد اللاعبين الذين اختبروا متطلبات المنافسة على أعلى مستوى تحسّنت نتائج منتخباتهم، والدليل الساطع حول هذا الأمر هو المنتخب الياباني الذي يضمّ 19 محترفاً خارج البلاد في تشكيلته المونديالية المؤلفة من 26 لاعباً، بينهم 8 لاعبين ينشطون في الدوري الألماني، لذا لم يكن مستغرباً أن يبدو «المانشافت» وكأنه كتاب مفتوح بالنسبة إلى اليابانيين الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف، أو إذا صحّ التعبير، أدركوا اللحظة المناسبة لتسجيل انتصارٍ آسيوي تاريخي على الألمان بعد ذاك الفوز الذي حقّقته كوريا الجنوبية عليهم لتطيحهم من المونديال الماضي.
«الشمشون» الكوري يبدو حاضراً أصلاً لتصعيب الأمور على أي منتخب لأسبابٍ مشابهة ترتبط بالنجوم العالميين الذين تضمهم تشكيلته، حتى إن اسم هيونغ مين سون، أو اسم كيم مينغ جاي، يبدوان كافيَين لإقناعنا بالمستوى العالي للمنتخب الكوري، ووجود لاعبين عالميين مثل هدّاف الدوري الإنكليزي الممتاز سون، أو أفضل مدافع حالياً في دوري المدافعين أي كيم الذي يتألق من نابولي الإيطالي، يكفي للقول بأنه على الصعيد الفردي يمكن لمنتخباتٍ اختراق دائرة الترشيحات من خارج التوقعات، وتحقيق حلم 4.5 مليارات نسمة في القارة الكُبرى برؤية منتخبٍ آسيوي في النهائي، في ثاني مونديالٍ تحتضنه آسيا في تاريخها.