تأتي الضربات الجوية والإنزالات الأميركية المتتالية في سياق متصاعد تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وصولاً إلى تحقيق الحضور المباشر والدائم في اليمن. يُلاحظ من المؤشر البياني ارتفاع في نسبة التدخل الأميركي منذ تسلّم دونالد ترامب إدارة البيت الأبيض، واتخاذه منحىً أكثر عدائية تجاه اليمن. يبرر مسؤولو مكافحة الإرهاب الأميركيين هذا التدخل بأنَّ فرع تنظيم «القاعدة» في اليمن هو أحد الأفرع الأكثر دموية في العالم، ويشكل أكبر تهديد فوري للولايات المتحدة، مضيفين أنه قام بثلاث محاولات غير ناجحة لتنفيذ هجمات بطائرات فوق الولايات المتحدة.
رغم ذلك، صدر عدد من التحذيرات لخبراء أميركيين وغربيين موجهة إلى الإدارة الجديدة من الانجرار إلى «مستنقع اليمن»، خاصة أنه لا يبدو أن الضربات العسكرية التي نفذت على محافظات البيضاء وشبوة وأبين حققت كامل الأهداف المرسومة لها، على خلاف الضجة الإعلامية الضخمة التي روجت أنها حققت الأهداف، مع العلم بأنَّ الطائرات الأميركية من دون طيار تستهدف منذ سنة تقريباً قادة وعناصر «القاعدة» في المحافظات الجنوبية، بالإضافة إلى البيضاء ومأرب الشماليتين.
وتحقق بالعموم طلعات هذه الطائرات أهدافها المرحلية (الاغتيال) تقريباً، ولا سيما أنَّ المعلومات التي من ضمنها معلومات «القاعدة» نفسها تؤكد أن التنظيم تعرض لعمليات اختراق واسعة في صفوفه، جرى الكشف عن بعضها، فيما نُفذت عمليات إعدام لعشرات المنتسبين إليه بتهمة التواصل مع الأعداء وفق بيانات «القاعدة».
وتأتي الضربات الأميركية في اليمن بعد اللغط الكبير الذي أعقب عملية الإنزال في منطقة يكلأ التابعة للبيضاء، وسط اليمن، في 29 كانون الثاني الماضي، التي أكد عدد من التقارير الاستخبارية إخفاقها، وأنها أضرت بسمعة القوات الأميركية وهيبتها، بسبب سقوط ما يقارب عشرين مدنياً في العملية، بينهم أطفال. وقد حاولت الإدارة الأميركية الدفاع عن نفسها إزاء إنزال البيضاء بأن سربت إلى عدد من وسائل الإعلام أنَّ العملية نجحت بامتياز، وذلك بالادعاء أنَّ القوات الخاصة حصلت بعد العثور على أجهزة الكمبيوتر المحمولة والأجهزة الخلوية على كنز من المعلومات. ووفق تلك التسريبات، فإنَّ دور «القاعدة» في اليمن يتعدى البلد والإقليم ويصل إلى أن يشكل تهديداً عالمياً.
من جهة أخرى، لاقت دولة الإمارات التي شاركت في إنزال البيضاء والضربات يوم أول من أمس، التسريبات الأميركية، بالادعاء أنَّ المعلومات التي حُصِل عليها في البيضاء ستغير خريطة التحالفات في اليمن، وستدفع إلى تسوية سياسية، في إشارة إلى إمكانية وقف الحرب الدائرة.
في غضون ذلك، يرى المطّلعون أنَّ التصعيد الأميركي يأتي ضمن خطة أشمل لتعزيز الوجود العسكري في المنطقة بعدما ثبت إخفاق حليفتها (السعودية) في أكثر من بلد عربي وعجز الأخيرة عن الحسم العسكري في الحرب على اليمن. في الإطار نفسه، تحاول واشنطن الاستفادة من الإمارات وتعزيز مشاركتها العسكرية في العمليات العسكرية الأميركية على «القاعدة» جنباً إلى جنب مع الجنود الأميركيين، وذلك لتأهيلها ولتنشيط دورها على حساب الدور السعودي في المنطقة.
رغم ذلك، يشكك كثيرون في الادعاء الأميركي بأنَّ الهدف من العمليات الأخيرة هو محاربة «القاعدة»، خصوصاً أن التنظيم يرتبط بصلات قبلية واجتماعية، وكذلك بخطوط أمنية مع حزب «الإصلاح» الإخواني، بل يرى العديد من الخبراء أنَّ «القاعدة» هو الجناح الأمني والعسكري لجماعة «الإخوان المسلمون» في اليمن، وأنَّ أي مقاربة أمنية من دون الأخذ بالاعتبار تلك الصلات هي كذرّ الرماد في العيون.
بمعنى آخر: إنَّ اقتصار المعالجة الأميركية للتنظيم في الإطار الأمني سيبقى قاصراً عن تحقيق إنهاء دوره، ويشير بوضوح إلى أنَّ محاربة «القاعدة» ذريعة قديمة ــ جديدة لشرعنة الوجود الأميركي في المنطقة، ولا سيما أن المساحة المشتركة الكبيرة بين ذلك التنظيم وحزب «الإصلاح» المتحالف حالياً مع السعودية التي تستضيف قادته وتوفر لهم سبل التحرك والتواصل وإدارة حزبهم، يمكن معالجتها إذا رغبت الرياض في ذلك.
يستشهد المراقبون، كذلك، بأنَّ تنظيم «القاعدة» انسحب في العام الماضي من المحافظات الجنوبية التي كانت تحت سيطرته (حضرموت، أبين، لحج) ضمن تسوية سياسية وقبلية مع الجانبين الإماراتي والسعودي من دون أن تخاض أي معركة أو أن تسقط قطرة دم واحدة. كذلك إنَّ عودة التنظيم في الأسبوع الماضي إلى محافظة أبين وانتشاره في بعض مدنها جاء بعد انسحاب القوات المحسوبة على الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي، وكذلك قوات «الحزام الأمني» المدعومة من الإمارات من دون قتال، بل لم تستطع الجهات الرسمية في المعاشيق في عدن تبرير أسباب الانسحاب، مع الإشارة إلى أن كلا الطرفين العسكريين المنسحبين يأتمران بقيادات «التحالف».
يشار إلى أنَّ المتحدث باسم البنتاغون، جيف ديفيس، أصدر بياناً حول الضربات الأميركية أمس، موضحاً أنها «ستحدّ قدرة القاعدة في جزيرة العرب» على تنسيق ما سمّاها الهجمات الإرهابية الخارجية، وتحد قدرته على استخدام الأراضي التي استولى عليها من «الحكومة الشرعية» في اليمن باعتبارها «مساحة آمنة للتآمر الإرهابي». وأضاف أنَّ أهداف الضربات شملت المسلحين والمعدات والبنية التحتية، وأنظمة الأسلحة الثقيلة ومواقع قتالية.
هنا يدور السؤال عمّا إذا كانت الإدارة الأميركية جادة فعلاً في تفكيك «القاعدة» في اليمن، وخاصة أنَّ المساحات الآمنة للتآمر الإرهابي وفق وصف ديفيس، تسلم للتنظيم أصلاً من دون قتال، وذلك على يد القوى اليمنية التابعة لـ«التحالف العربي»، أي إنه من باب أولى أنَّ على الأميركيين سؤال حليفهم (هادي) ومن ورائه الرياض، وكذلك أبو ظبي (التابع الأميركي المفضل حالياً) عن سبب انسحاب القوتيين اليمنيتين من أبين، وكلتاهما تأتمران بأوامرهما؟