صنعاء | اليوم هو الثاني من بعد وقوع «المصيدة الكبيرة» بحق مئات الجنود السودانيين وعشرات الآليات السعودية التي حاولت اقتحام شمال صحراء ميدي في محافظة حجة شمال غربي اليمن. بإمكاننا توثيق نحو 60% من آثار المعركة التي دارت قبل ساعات هنا، وفق ما يُخبرنا مصوّر «الإعلام الحربي» التابع لحركة «أنصار الله»، شارحاً لنا أن قوّات العدوان شنّت عشرات الزحوف عقب خسائرها وذلك لسحب جثث قتلاهم والآليات المعطوبة.
ورغم وجود عشرات الجثث للقتلى السودانيين في المساحة التي تفصلنا عن آلية معطوبة من نوع «أشكوش» أميركية الصنع، فإن انهماك ثلاثة من المقاتلين اليمنيين في عمل ما بجوارها استرعى الانتظار والسؤال. هم الآن يستعدّون لإحراق آخر مدرعة سعودية زحف على متنها المرتزقة السودانيون، ولا مانع من مشاركتهم تصوير العملية.


تصاعدُ الأدخنة من إحراق الآلية أثار حفيظة قوات العدوان الموجودة خلف السياج الحدودي في منطقة الموسّم التابعة لجيزان، جنوبي السعودية، لأنها رسالة واضحة تفيد بأنهم لن يتمكنوا من استعادة المدرعة الباهظة الثمن. قُرئت الرسالة، ومن الفور، باشرت المدفعية السعودية ــ السودانية إطلاق عشرات القذائف المدفعية للانتقام.
تخطينا مكان المدرعة وأدخنتها ملتصقة بأنوفنا. أمتارٌ كثيرة نقطعها وتظهر لنا نحو عشر آليات متنوعة الأشكال والأحجام كان من هنا قد انتهوا من إحراقها ليلة وصولنا ميدي. يخبرنا بعض هؤلاء أن جولتنا لا تزال في بدايتها، وأن ما شاهدناه إلى الآن يتبع للمحور الأول وبقي أمامنا الكثير. فالمساحة التي دارت فيها المعارك تبلغ زهاء ستة كيلومترات مربّعة، بدءاً من محاور الانطلاق شمال الصحراء خلف السياج الحدودي جنوبي جيزان، حتى هذه الأماكن حيث نحن، وهي تُعرف باسم المزارع.
قبل دخولنا المحور الثاني، من المحاور الثلاثة التي انطلقت منها زحوف المرتزقة السودانيين على الصحراء، تصلُ روائح الجثث المتعفنة إلى مسافات ما قبل وصولنا مكان المقتل. يوجد في المكان زهاء خمس عشرة جثة مضى عليها أكثر من 24 ساعة. جميع القتلى سودانيون، ويبدو من الرتب العسكرية المعلقة على بزّات عدد لا بأس به منهم أنهم ضباط ومن ذوي الرتب العليا في الجيش السوداني.
للوهلة الأولى، كنا نتوقع أن نعثر على قتلى من المرتزقة اليمنيين لكننا لم نجد قتيلاً واحداً منهم. يقول أحد المرافقين إن معلوماتهم تُفيد برفض قادة سودانيين مشاركة أي عنصر من المرتزقة اليمنيين، لأنهم يرونهم خونة تخاذلوا عن حماية حدود المملكة ودرء الخطر «الحوثي» عنها. وقد وافق الجيش السعودي على الشرط، واكتفى بإشراك قيادات من الجيش السعودي للإشراف على عملية «اكتساح الصحراء» وإرشاد السودانيين إلى نقاط الانطلاق والأهداف المفترض السيطرة عليها.
تُفهمُ الكلمات بصعوبة وهي تتصاعد من فم رفيقنا المقاتل وهو يغطي وجهه وأنفَه بلحاف غليظ خشية الرائحة. يقول بحسرة: «كدنا أن ننسى أن لنا جيوشاً عربية، لم يعد أحد منا يُعلق عليها الآمال لمواجهة عدونا جميعاً: إسرائيل». ويكمل: «للأسف، جاء هؤلاء لقتالنا خدمة لأميركا وإسرائيل وعملائهم بني سعود». يشير المتحدّث إلى أماكن تختبئ فيها جثث لا تكاد تُرى، ويكمل حديثه: «استطاع المال السعودي أن يستقطع من الجيش السوداني مرتزقة ومقاتلين بالوكالة... من جيش رسمي إلى أدوات مثلهم مثل المستأجرين من شركات كبلاك ووتر وغيرها».


يخبرنا مسؤول عسكري أن تجاوزَ المكان حيث نوجد والاقتراب أكثر خطرٌ علينا، فالعدو يربض على بعد نحو 500 ــ 800 متر، وهي مسافة تنتصب وسطها معالم الترسيم الحدودي بين البلدين، وبالإمكان مشاهدة تحركات العدو بالعين في منطقة توصف بأنها «ساحة القنّاصين» وميدان صيدهم. من الواضح وفق أحاديث المرابطين في صحراء ميدي وشهادات المشاركين أن النظام السعودي كان قد بنى آمالاً عريضة على عملية الحادي والعشرين من أيار الأخيرة (يوم العملية)، وحاول عبر لواء كامل من السودانيين أن يسدّد الضربة الأخيرة صوب الجبهة الساحلية الشمالية الغربية (ميدي)، التي مثلت نقطة تعثّر واستنزاف غير محتملة للخزينة السعودية من جهة، وللقوة البشرية في معسكر الموالين للرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي و«شرعيته» من جهة أخرى.
المعلومات تؤكد أن الهجوم على ميدي كان هدفه اكتساح الصحراء وصولاً إلى مزارع نسيم في العمق، ثم فصل مدينة ميدي وساحلها عن الصحراء وقطع معظم خطوط الإمداد وتفتيت الجبهة الساحلية من بوابتها الغربية، وأخيراً فتح الطريق إلى الحديدة، المدينة الساحلية التي يلوح تحالف العدوان منذ أشهر باقتحامها.

هذا الاستنتاج أكدته معلومات أخرى حصلنا عليها ضمن جملة وثائق ومستندات وبيانات مرئية عثر عليها المقاتلون اليمنيون بحوزة القتلى السودانيين، كما أن العملية (وفق مشاهد صورها سودانيون أثناء دخولهم الصحراء) قادها ضباطٌ سعوديون وحُشِر لها لواء كامل من جيش الخرطوم يُقدر عددهم بثلاثة آلاف ونيف، ومعظمهم قوة راجلة.
المشاهد، التي عرضها علينا مقاتلون يمنيون مستخرجة من هواتف المرتزقة السودانيين، تظهر مشاركة نحو خمسين آلية عسكرية متنوعة في الزحف وثلاث طائرات عمودية من نوع «أباتشي» عملت على تمشيط الصحراء والتهيئة لتقدم القوات على الأرض. والأهم من هذا أن المشاهد نفسها احتوت ما يبدو أنه احتفال بالنصر شارك فيه جنود سعوديون داخل المناطق التي استقر فيها السودانيون، وبدؤوا تشييد تحصينات ترابية ضخمة على بعد ستة كيلومترات من نقطة انطلاقهم.
يقاطع مسؤول عسكري يمني المشاهد المعروضة علينا ويُسهب في شرح الكمين الذي استدرجت إليه قوات الغزو السودانية ــ السعودية.

فبعدما استقرت «المحاور الثلاثة» وتحصنت في مساحات واسعة من الصحراء لمدّة أربع ساعات، وقبل أن تكتشف أنها وقعت في مصيدة كبيرة استخدم فيها المقاتلون اليمنيون أساليب تتواءم وحروب الصحراء؛ عمد اليمنيون إلى تضييق الخناق على القوات السودانية في بداية المواجهة وصولاً إلى إجبارها على التراجع حتى حقل ألغام واسع يقع إلى الشرق من أماكن المواجهات، وهناك أطبقت المصيدة: تم تفجير عشرات الآليات ومن عليها.
جسم أبيض آخر شبيه بذاك الذي شاهدناه لحظة دخولنا الصحراء يلوح من جديد. نقترب منه لنتعرف إليه: إنه جمجمة لرأس آدمي مكتمل الخلقة. يبادرنا المرافق بالإجابة قبل أن نسأله، فيخبرنا أن العظام التي نشاهدها في الصحراء تعود إلى مرتزقة يمنيين قتلوا قبل أشهر خلال عشرات الزحوف على شمال صحراء ميدي. «لكنكم الآن تدفنون جثث القتلى السودانيين، فلماذا بقي مثل هؤلاء في العراء؟». يرد المقاتل: «الرمال تدفن كثيرين... ليس بمقدورنا دفن كل من يقتل هنا خاصة أن هذه الزحوف تتكرر أحياناً خلال الساعة الواحدة... قادة المرتزقة والضبّاط لا يكترثون للقتلى ولا يهتمون باستعادة جثثهم، خاصة عندما يكون القتيل يمنياً».
خلال جولتنا الميدانية في صحراء ميدي عقب 12 ساعة من وقوع المصيدة، أمكن توثيق معلومات ميدانية ومشاهد حية تشي بحجم الخسارة الاستثنائية التي تعرض لها تحالف العدوان، وهذه المرة بصورة خارجة عن المألوف وأبعد ما تكون عن حسابات ميزان القوة العسكرية بين الطرفين. أكثر من 25 جثة للجنود السودانيين كانت مرمية على رمال الصحراء أدركناها فقط لحظة وصولنا المكان، فيما كانت الحصيلة الإجمالية التي أعلنتها مصادر عسكرية يمنية 136 قتيلاً من السودانيين و244 جريحاً.

يقول أحد المقاتلين معقباً على دهشتنا: «هذه الجثث التي تشاهدها ليست إلا ما عجزت القوات السودانية عن انتشالها من محور واحد من ثلاثة محاور... خلال ساعات الليل وبعد الكمين شن المرتزقة السودانيون أكثر من عشر عمليات تسلل بهدف انتشال جثامين زملائهم القتلى، وتمكنوا باستخدام أرتال الآليات المدرعة السعودية من رفع العشرات». يضيف الشاب الملقب «أبو طالب»: «كنا في البداية نمنعهم من الوصول إلى الجثث باستهداف المدرعات وقنص من يحاول النزول منها، لكن تبين لنا أن القتلى المنتشرين على مساحة واسعة من الصحراء وبالقرب من خطوط النار سيشكلون عبئاً علينا، وستتحول أجسادهم المتحللة إلى مصدر وباء قد يصيب الكثير من المجاهدين، لذلك أتحنا لهم المجال لسحب العدد الأكبر من الجثث، قبل أن ندفن العشرات مما تبقى هنا».
بادر رفيق «أبو طالب» وعرض علينا عشرات الصور والبطاقات الشخصية والعسكرية الخاصة بالجنود السعوديين، وهي ضمن وثائق وجدت بحوزة القتلى السودانيين، واللافت فيها أن معظمها تعود إلى قيادات عسكرية عليا في الجيش السوداني، كما أن المبالغ المالية بالريال السعودي التي عثر عليها في حوزتهم تساوي تقريباً المبالغ التي تعطى للمرتزق اليمني.


سير المعركة

أحصت عدسة «الإعلام الحربي» لحظة الهجوم في المحور الأول خمسة عشر آلية بينها جرافتان وناقلات جند وآليات «اشكوش» أميركية، وعدد آخر من السيارات والأطقم العسكرية. أما العدد الحقيقي، فيقدره مصدر شارك في العملية بـ75 آلية متنوعة وزهاء 2500 مرتزق سوداني توزعوا بين قوات راجلة خلف الآليات وأفراد محملين على الآليات. ويضيف: «في البداية اعتمدوا على الآليات، فيما ظل المشاة يمشون وراءها، لكن انفجار العشرات منها وهي محملة بالجنود صنع حالة رعب لدى البقية المحمولين في الآليات الأخرى، فاضطرت غالبيتهم إلى الترجل، وهو ما أحدث خللاً في خطة اكتساح الصحراء كما يسميها المرتزقة، وقد تكدست أعداد كبيرة منهم في مساحات محصورة، الأمر الذي سهل على المدفعية اليمنية استهدافهم وقتل وإصابة العشرات منهم قبل يفروا ويتركوا الآليات المعطوبة منها والسليمة».

ترك الغزاة يدخلون العمق حتى اطمئنوا إلى مواقعهم... ثم أطبقت المصيدة


أما الانطلاق من المحور الثاني، فتفيد شهادات أخرى بأنه اعتمد على المشاة مع عدد قليل من الآليات التي كانت تشق الطريق وتؤمّن متاريس وتحصينات ترابية للأفراد، وهنا سقط أكبر عدد من القتلى بالأسلحة الصغيرة والمتوسطة، ثم انسحبت الآليات محملة بجثث العشرات منهم، فيما حاولت طائرات «الأباتشي» التعامل مع اليمنيين لكنها لم تكتشف مواقعهم، واكتفت بالتحليق والقصف العشوائي على مساحات واسعة من الصحراء باتجاه ما تظنه مواقع المقاتلين.
ورغم ما يصفه قيادي ميداني بالخطة المحكمة التي اتبعتها قوات المرتزقة السودانيين في الهجوم ومحاولة السيطرة، فإنها سرعان ما انقلبت عليهم، وتمكن اليمنيون من استيعابها ووضع خطة بديلة احتوت أساليب المرتزقة وعملت على استدراجهم أكثر إلى عمق الصحراء، وهناك كان التعامل معها كأهداف يسهل اصطيادها بمختلف أنواع الأسلحة. وتشدد مصادر الجيش و«اللجان الشعبية» على أن أي سلاح ثقيل لم يستخدمه اليمنيون في المراحل الأخيرة من العملية، بل اكتفوا بإحراق عشرات الآليات بـ«ولّاعات صغيرة» عقب فرار السودانيين.

جرائم الغزاة

ورغم أن عمر بقاء قوات الغزو من مرتزقة السودان في صحراء ميدي لم يتجاوز ست ساعات ــ الوقت الذي توهمت فيه الانتصار ــ فإنها خلفت وراءها جرائم واضحة من بينها نهب وسرقة بيوت المزارعين في الصحراء التي صادفتها في الطريق قبل إضرام النيران فيها وإحراقها كاملة وتسويتها بالأرض. الفضول دفعنا إلى السؤال عن محتوى هذه البيوت ومقتنياتها وهل كانت تستحق النهب، لكن الدهشة أصابت الجميع ممن شاهدوا الرماد واشتموا رائحة الحقد المنتشر في المكان!
يمسك أحد المقاتلين بندقيته ويدنو من الأرض مغترفاً حفنة من الرماد ويتساءل: «ما الذي ينتظر اليمنيين لو تمكن منهم هؤلاء؟». ويضيف: «نخطئ كثيراً حين نحسن الظن بالغزاة... ها هم قد صبوا حقدهم وأحرقوا بضعة بيوت قليلة في الصحراء ليس فيها ما يستحق الحياة أصلاً فضلاً عن سرقتها».
وبرغم أن عدد هذه البيوت قليل جداً، طاول الخراب جميعها. حتى المزارع التي عبروا فيها أحرقوا شجرها الكبيرة وداست بقيتها جنازير آلياتهم ودباباتهم. وأصلاً هذه البيوت والمزارع هي الجزء المتبقي من القرى التي دمرها الطيران سابقاً. يختتم أحد المقاتلين رحلتنا قائلاً إنه خلال رباطه هنا منذ شهور، لاحظ أن المرتزقة السودانيين نهبوا مزرعة دواجن كان قد هجرها أحد المزارعين قبل عام تقريباً. وذكر أن المرتزقة نقلوا «ما غنموه من دجاج» إلى معسكرهم داخل منطقة الموسم السعودي قبل أن يُحرقوا المزرعة وبستان النخيل في الجوار.




كيف غطى إعلام العدوان «المصيدة»؟

تداعيات ما حلّ بالقوات السودانية لا تزال تتبدى تباعاً مع ما يبدو أنه إعلان تجزيئي تنتهجه الخرطوم لمكاشفة جمهورها بحجم الخسارة الكبيرة التي لحقت بقواتها. وعبر السياسة والطريقة الإعلامية نفسها، همّشت دول تحالف العدوان ووسائل إعلامها أخبار قتلى الجيش السوداني (العضو في «التحالف») كلياً دون أدنى اعتبار أو حتى مواساة أو رسالة عزاء. ويبدو أن حجم الخسارة الكبيرة وغير المتوقعة جعل من أي تعاطٍ إعلامي معها يمثل ضرراً أكثر مما يعود بالنفع على دول العدوان، وبخاصة السعودية.
هذه في العادة سياسة تتبعها الرياض عندما تكون خسارتها بحجمٍ أو بصنفٍ نوعي خارج حساباتها كما حال الباليستيات اليمنية. أما السودان، بحكم أن جيشه بيع كمرتزقة، فإنه في وضع حرج أكثر من السعودية، وبذلك استفاد من ضعف الأداة الإعلامية لليمنيين التي لم تستطع ترويج الخبر «الفضيحة» بقوة مقارنة بضخامة إمكانات دول «التحالف» الإعلامية. ولولا ضغط الشارع السوداني المتزايد، ما كان الإعلام الرسمي هناك قد اعترف بالمطلق بقتلاه وبخسائره.