كما كان متوقعاً، انفجرت الأوضاع الأمنية على نحو غير مسبوق في مدينة عدن جنوب اليمن، بالغةً بالتشاحن بين «رفاق السلاح والمعركة ضد الميليشيات الانقلابية» أقصى مستوياته، وفاتحة الأبواب على سناريوات أشد سوداوية ربما تحملها الأيام المقبلة. لم تعد الميليشيات المتكاثرة التي أنشأتها السعودية والإمارات في المدينة المتنازع عليها منذ ما يقارب عامين، وأنفقت عليها بسخاء، تحتمل وجود بعضها بعضاً في مساحة النفوذ نفسها.
كل تشكيل من تلك التشكيلات، التي تعتدّ الرياض وأبو ظبي بأنها النواة الفضلى لـ«الجيش الوطني اليمني» المبشّر به خليجياً، يعتقد أنه الأحقّ في السيطرة وتولي زمام القيادة، بعضهم تحت ستار «الدفاع عن الشرعية»، وآخرون بدعوى «المطالبة باستقلال الجنوب».
وما بين الفريقين، أصوات لا تفتأ تعلو يوماً بعد يوم، محذرة من أن الشعارات المرفوعة ما هي إلا «لافتات مخادعة أو كاذبة»، وأن ما يجري ليس إلا «مغالاة في الارتزاق» لمصلحة دولتين لا تريان في اليمنيين الجنوبيين سوى وقود لمعركة لا يزال الانتصار فيها مستعصياً، وأن ضحية «العبث» الدائر اليوم في الجنوب لم يكن ولن يكون إلا المدنيين الذين سقطوا مجدداً «فرق عملة» بين «بلاطجة» السعودية والإمارات. إزاء ذلك، لم تظهر قيادة تحالف العدوان بالغ حساسية باقتتال عناصر ميليشياتها، مُؤثِرةً، على ما بدا أمس، إفساح المجال أمامهم للتنفيس عن احتقانهم، من دون السماح بانفلات الأوضاع نهائياً، ريثما تحين اللحظة المناسبة للتخلص من تلك القفازات، وإلقاء «شرعية» عبد ربه منصور هادي التي أثقلت كاهل السعودية طيلة 3 أعوام من الحرب في جوارير النسيان، والضرب بـ«شراكة الدم» التي يلحّ عليها بعض الجنوبيين في «تذلّل غريب» عرض الجدار.
ظهر المشهد العدني، طيلة يوم الأحد، أشبه بجزء مستعاد من شريط عائد إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما انخرط «الرفاق» في اقتتال دامٍ استمر أشهراً وراح ضحيته آلاف الأشخاص، مع فارق رئيسي هذه المرة أن مسرح الاقتتال خاضع لاحتلال خارجي، وأن هذا الاحتلال لا يعير أدنى أهمية لما هو مفروض عليه بموجب القوانين الدولية، بقدر ما يسعى إلى إحكام إدارته لتصارع حلفائه تحقيقاً لمصالحه الخاصة، مثلما فعلت السعودية عام 1994، عندما دعمت طرفي الحرب ما بين الرئيس الراحل، علي عبدالله صالح، ونائب الرئيس الأسبق، علي سالم البيض.
حتى ساعة متأخرة من يوم أمس، لم تَثبت معطيات خريطة الصراع في مدينة عدن، على نحو يمكن على أساسه تقدير حجم سيطرة كل طرف من الأطراف المتنازعة. باستثناء الشائعات والادعاءات المتبادلة، لا شيء يفيد بانحسام الوضع لمصلحة فريق ما، إلا أن المؤكد أن ميليشيات «الحزام الأمني»، الموالية لـ«المجلس الانتقالي الجنوبي»، المحسوب على أبو ظبي، تمكنت من السيطرة على غير مقرّ حكومي ومعسكر، بعد اشتباكات عنيفة مع ألوية «الحماية الرئاسية»، الموالية للرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي، أدت إلى مقتل ما لا يقلّ عن 10 أشخاص؛ بينهم مدنيون، وجرح آخرين. سيطرة ليس معلوماً المدى الزمني لاستمرارها، في ظل توعّد بقية التشكيلات الموالية لهادي (قوات المنطقة العسكرية الرابعة، والقوات الخاصة، والصولبان، والشرطة العسكرية، ومعسكر بدر)، والتي لم تشارك في اشتباكات أمس، بـ«الرد، وحسم المعركة لمصلحتها خلال الساعات المقبلة»، ما لم يحصل تطوّر كفيل بلجم قوات «الحزام».
مصادر محلية قالت لـ«الأخبار» إن «المجلس الانتقالي»، برئاسة عيدروس الزبيدي، وضع رهانه على أن حشوداً ضخمة قادمة للمشاركة في الفعالية التي نظمها أمس للمطالبة بإسقاط حكومة أحمد عبيد بن دغر، مترافقة مع استنفار عسكري من قبل «الحزام الأمني» وبقية الميليشيات الموالية للزبيدي ومدير أمن عدن، شلال علي شائع، ستكون كفيلة بإحداث حالة تضعضع في القوات الموالية لهادي، ومن ثم انهيار في صفوفها، تخلو من بعدها الساحة لقوات «الانتقالي». لكن رهانات «الانتقالي» لم تتحقق على نحو ما اشتهت قياداته؛ إذ إن قيام قوات «الحماية الرئاسية» بقطع معظم الطرقات المؤدية إلى ساحة العروض في مديرية خورمكسر (مكان الفعالية) حال دون تدفق مواكب سيارة إلى الساحة منذ ساعات الصباح كما يحدث عادة في فعاليات الحراك الجنوبي. يُضاف إلى ذلك أن ألوية «الحماية» التابعة لهادي أبدت مقاومة مكنتها من إبقاء سيطرتها على مديرية كريتر، وأجزاء من مديرية خورمكسر، ومعظم مديرية دار سعد، ومناطق أخرى، خلافاً لما توقعته قيادات «الانتقالي» من استسلام سريع، على غرار ما حدث إبان سيطرة حركة «أنصار الله» على صنعاء.
بوادر هذا الاختلال هي التي دفعت، على ما يبدو، «المجلس الانتقالي»، لاحقاً، إلى إبداء استعداده للتهدئة، عبر تأكيده «أننا ملتزمون بالنهج السلمي في المطالبة بتغيير الحكومة والوقوف على الاختلالات في كل المحافظات والوزارات»، ودعوته الجميع إلى «الالتزام بالسلمية والحوار والبناء إلى أن يتم تصويب الاختلالات». وفي الاتجاه نفسه، وجه بن دغر، بناءً على «محادثات» بين هادي وبين قادة «التحالف العربي»، «جميع الوحدات العسكرية بوقف إطلاق النار فوراً، وأن تعود جميع القوات إلى ثكنها، وإخلاء المواقع التي تمت السيطرة عليها صباح اليوم من جميع الأطراف دون قيد أو شرط». وترافق صدور تلك المواقف مع سريان أنباء عن جهود وساطة يقودها قائد المنطقة العسكرية الرابعة الموالية لهادي، فضل حسن، إلى جانب عدد من قيادات «المقاومة» المحسوبة على الرئيس المستقيل.
لكن ذلك كله لم يمنع ارتفاع منسوب التراشق الكلامي، الذي يهدد بتجدد الاشتباكات في أي وقت، في ظل «البرودة» التي تبديها قيادة «التحالف» إزاء تفجر الأوضاع.

تعرب مصادر سياسية جنوبية
عن اعتقادها بأن «المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد»
وأصدر «الانتقالي»، مساء أمس، بياناً حمّل فيه حكومة بن دغر المسؤولية عما شهدته عدن يوم الأحد، متهماً القوات الموالية لحكومة هادي بـ«مخالفة دعوة التحالف العربي للتهدئة، واستخدام قوة السلاح لمنع المحتجين من الوصول إلى ساحة العروض». وجدد المجلس تمسكه بمطلب إسقاط حكومة بن دغر، داعياً هادي إلى «تحكيم العقل والمنطق والاستماع إلى مطالب شعبه في الجنوب... وذلك بإقالة حكومة الفساد قبل أن يخرج الأمر عن السيطرة». في المقابل، اتهمت حكومة بن دغر «المجلس الانتقالي» بـ«استهداف الشرعية ومحاولة إسقاطها عبر أعماله التخريبية»، واصفة العناصر الموالية للمجلس بـ«الخارجة على النظام والقانون»، فيما أصدرت السلطة المحلية في عدن بياناً رفضت فيه «الممارسات اللامسؤولة والهمجية والعدوانية التي أقدمت عليها قوات تتبع المجلس الانتقالي، والتي قد تدخل عدن والبلاد في أتون صراعات دموية لا تحمد عقباها». وكان بن دغر قد لمح، في منشور على «فيسبوك»، إلى مسؤولية الإمارات عما جرى أمس، قائلاً إن «الأمل معقود عليها»؛ كونها «صاحبة القرار في عدن»، وداعياً «التحالف» إلى «التحرك لإنقاذ الموقف».
على مقلب «التحالف»، بدا الموقف متذبذباً ومائعاً؛ إذ بعدما أصدرت قيادة «التحالف»، ليل السبت - الأحد، بياناً دعت فيه «كل المكونات السياسية والاجتماعية اليمنية إلى التهدئة وضبط النفس، والتمسك بلغة الحوار الهادئ»، مشددة على ضرورة «عدم إعطاء الفرصة للمتربصين لشق الصف اليمني أو إشغال اليمنيين عن معركتهم الرئيسية»، لم يصدر عن القيادتين السعودية والإماراتية تعليق على مواجهات أمس، باستثناء تغريدة «غامضة» لوزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، لفت فيها إلى أن «موقف الإمارات واضح ومبدئي في دعمه التحالف العربي الذي تقوده السعودية»، مضيفاً أن «لا عزاء لمن يسعى إلى الفتنة».
في خضم ذلك، تعرب مصادر سياسية جنوبية عن اعتقادها بأن «المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد»، وبأن «ما شهدته عدن يوم الأحد ليس إلا نموذجاً لما يمكن أن يؤول إليه الصراع المحتدم تحت الرماد منذ أشهر». وترى المصادر أن ثمة سيناريوين رئيسيين متوقعين عقب أحداث أمس: أولهما أن يعيد «المجلس الانتقالي» الكرّة، أملاً بإحداث تغيير أكبر في المعادلة العسكرية، يمكنه بواسطته تصدير نفسه «ممثلاً حصرياً لجنوب اليمن»، وثانيهما أن يتم الإيعاز إلى هادي بإجراء تعديل حكومي، من شأنه امتصاص الغضب، وإعادة ربط النزاع حتى إشعار آخر.




باعوم: أصل المشكلة الاحتلال الأجنبي

صدرت، يوم أمس، سلسلة مواقف عن شخصيات جنوبية حذرت من خطورة ما يجري في عدن، مؤكدة أنه لا يصب في مصلحة القضية الجنوبية. ودعا الرئيس الجنوبي الأسبق، علي ناصر محمد، «التحالف» والقوات الموالية له إلى وقف الحرب وعدم «اللعب بالنار»، حاضاً الجنوبيين على أن «يعودوا إلى الحوار، وأن لا يتحولوا إلى متعهدين لهذه الحروب، فلا إسقاط حكومة بن دغر سيحل مشكلة الوطن والمواطن، ولا أي حكومة أخرى ستأتي بعدها يمكنها أن تحل أزمة البلاد والعباد». وجدد ناصر مطالبته بـ«تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، وسحب كل أسلحة المجاميع المسلحة، وتسليمها لوزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، وقيام دولة اتحادية من إقليمين لفترة مزمنة، وإعطاء الشعب في الجنوب حقه في تقرير مصيره بنفسه».
من جهته، رأى القيادي في الحراك الجنوبي، فادي باعوم، أن «الإمارات هي التي تدير كل هذا الصراع، ليس حباً بالجنوب، ولا قضية الجنوب، وإنما بحثاً عن مصالحها»، مخاطباً قيادات «المجلس الانتقالي» بالقول: «إن أردتم أن تعلنوا دولة جنوبية، فنحن معكم، أما خلط الأوراق بالطريقة هذه، والتعمية على ما يحصل في عدن، من تجميع الحرس الجمهوري، والسيطرة على مطاراتنا وموانئنا وجزرنا، فهذا غير مقبول». وكان الزعيم الجنوبي، حسن باعوم، قد جدد، أول من أمس، دعوته إلى توقيع «ميثاق شرف» ينظم الخلافات ويلزم الأطراف كافة بعدم استخدام العنف، منتقداً «اصطناع صراعات وأزمات جديدة» على السلطة، في ظل «احتلال أجنبي متعدد»، مشدداً على ضرورة «عدم السماح بتظليل ذلك الاحتلال بأمور ثانوية تكرّسه». وطالب باعوم بـ«إشراك الحراك الجنوبي كطرف في المفاوضات للوصول الى حلول دائمة».
(الأخبار)