بعد ثلاث سنوات من القتال العنيف على جبهة ميدي شمال اليمن، نجحت قوات «التحالف السعودي» بحسم المعركة ضد مقاتلي حركة «أنصار الله»، ووصلت إلى مركز المدينة الذي يبعد عن الحدود السعودية قرابة ثلاثة كيلومترات، بفاتورة بشرية ضخمة كلَّفت «التحالف» مئات القتلى والجرحى، نالت القوات السودانية النصيب الأكبر منها. كان هذا قبل أن تُلوّح الخرطوم بنيتها سحب قواتها المنضوية في إطار «التحالف».التهديد الذي أطلقته وزارة الدفاع بنية الخرطوم إعادة تقويم مشاركة قواتها في حرب اليمن، جاء بعد جملة تطورات شهدتها الساحة السودانية في الداخل، شغلت منها الأزمة الاقتصادية الحيِّز الأكبر. وفيما استفحلت أزمة فقدان الوقود بسبب شحّ النقد الأجنبي وتراجع سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار، لم تبادر السعودية والإمارات إلى مدّ يد العون لحكومة الرئيس عمر البشير، التي على الأثر باتت تتحين قيام تحركات شعبية يجري الإعداد لها على قدم وساق، وهي تحركات استمات البشير في إخماد سابقاتها. أضف إلى ذلك تصاعد الأصوات الرسمية والشعبية المطالبة بسحب القوات من اليمن، نظراً للخسائر الكبيرة التي تُمنى بها في حرب وصفتها كتلة «التغيير» البرلمانية بأنها حرب «لا ناقة للسودان فيها ولا جمل».
مصادر مقربة من دوائر صنع القرار أكدت لـ«الأخبار»، أن الخرطوم «لن تقدم على سحب قواتها المقاتلة من اليمن»، واضعة ما أعلنته وزارة الدفاع في خانة «المناورة السياسية التي لم تتأخر وتأتي أُكُلها». وتمثل ذلك بمسارعة السفير السعودي في الخرطوم، علي بن حسن جعفر، الأحد الماضي، إلى إعلان قرب توقيع بلاده لمذكرات تفاهم مع السودان في المجالات العسكرية والاقتصادية، تبع ذلك وصول وفد إماراتي إلى الخرطوم في اليوم ذاته، أجرى لقاءات في وزارتي الخارجية والدفاع. وفيما خرج وزير النفط السوداني، عبد الرحمن عثمان، الاثنين، لتأكيد التوصل إلى اتفاق مع السعودية لمدّ بلاده باحتياجاتها النفطية لمدة خمس سنوات، كان وكيل وزارة الخارجية عبد الغني النعيم، يصرح للصحافيين قائلاً: إن الوفد الإماراتي بحث «انسياب التعاملات المصرفية بين البلدين، وحجم الاستثمارات الإماراتية في السودان في المجالات المختلفة والعمل على زيادتها والدفع بها إلى الأمام».
المصادر لفتت إلى أن حكومة البشير بتهديدها سحب قواتها إنما رمت «كرة النار الداخلية» في أحضان دول «التحالف» وبخاصة السعودية والإمارات، «فهي تعلم أن الدولتين لن تستطيعا الاستغناء عن جهود القوات السودانية، خاصة أن سحبها يعني قصم ظهر التحالف، فهي رأس حربة القوات البرية، التي يرمي بها البشير في محرقة اليمن، بحسب ما تقتضيه مصلحة النظام».
نائبة الأمين العام لـ«قيادة الثورة السودانية» (أثق)، فاطمة غزالي، أوضحت أن حكومة البشير باتت «محاصرة شعبياً بعدما أثبتت فشلها في كافة النواحي الاقتصادية السياسية والأمنية»، لافتة إلى أن «الأرضية الشعبية داخل البلاد اقتربت من الانفجار، وهناك مساعٍ جادة لتنظيم تظاهرات تصبّ في هذا السياق».
حكومة البشير تعلم أن الرياض وأبو ظبي لن تستطيعا الاستغناء عن القوات السودانية


غزالي لفتت إلى أن ارتفاع أعداد قتلى القوات السودانية وضع الشارع في حالة غضب شديدة، وفيما وضعت الأعداد التي تعلنها الخرطوم عن قتلاها في اليمن في خانة تخفيف المصيبة، أعربت عن اعتقادها بأن أعداد القتلى «تجاوزت حاجز الألف جندي، من أصل نحو 8220 جندي مشارك في الحرب اليمنية، بحسب ما تظهره التقارير».
غزالي لم تستبعد المعلومات عن وجود «حالات تمرد» في صفوف القوات السودانية اعتراضاً على ارتفاع أعداد القتلى، وفيما لفتت إلى أن الأمر لا ينسحب على فصيل يتبع إحدى القبائل السودانية التي قررت مواصلة القتال وترفض الانسحاب بذريعة «الدفاع عن الحرمين الشريفين»، أوضحت أن «القوات المشاركة في الحرب ليست من ضمن الجيش النظامي للسودان، بل هي من الميليشيات وقوات الجنجويد، والأخيرة لطالما لجأ إليها البشير ووظفها في الداخل، وقد عرف عنها ارتكابها الجرائم بحق المواطنين وممارستها مختلف صنوف القتل».
وعن فرضية وضع حركة «أنصار الله» العاصمة السودانية في مرمى الاستهداف الباليستي، أسوة بالمعادلة التي أرسيت مع السعودية باستهداف الرياض، أكدت غزالي أن قائد الحركة عبد الملك الحوثي «لن يتخذ قراراً كهذا، فهو يعلم حقيقة الموقف الشعبي للسودانيين ورغبتهم في وضع حد لهذه الحرب التي لم يوافقوا على دخولها منذ البداية».
هذه المعطيات تتقاطع مع ما ذكره الكاتب السياسي والديبلوماسي السابق عبد الرحيم عمر أحمد، في حديث مع «الأخبار»، أكد فيه أن الرئيس عمر البشير «لن يسحب قواته من اليمن، على الرغم من تحرك مجوعة من البرلمانيين لوقف المحرقة التي تتعرض لها القوات السودانية في تلك البلاد»، خاصة أن الرئيس السوداني «لم يعرض مشاركة قواته في التحالف منذ البدء على البرلمان لأخذ موافقته، بل حصل الأمر بقرار رئاسي منفرد».
أحمد أكد أن حكومة البشير كانت تنتظر من دول «التحالف بعض التقدير على إسهاماتها في حسم الكثير من المعارك في اليمن، وبذلها الغالي من الدماء، لكنها تفاجأت بأنها لم تستحصل على أي مساعدات» على الرغم من الوعود التي أغدقت عليها. وعلل «مناورة الخرطوم» بأنها جاءت بعدما شعرت حكومة البشير بالغبن الشديد، فـ«فيما تتلقى مصر الأموال من السعودية والإمارات وتُزوَّدها بنحو 700 ألف طن شهرياً من النفط الخليجي، وهي لم ترسل أي جندي للقتال في صفوف التحالف، نرى أن السودان لم يتلقّ أي مساعدات، بل هو يعاني من أزمة اقتصادية». وعن استمرار حالة الاختناق الداخلية نظراً لفقدان الوقود، أكد أن السودان «لم يتلقّ أي شحنات نفطية من السعودية أو الإمارات تعينه على التخفيف من النقص الحاد في هذه المادة، برغم مرور قرابة ثلاثة أيام من تاريخ إعلان التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن مع الرياض»، مع العلم أن وصول باخرة نفط من إحدى دول «التحالف» إلى السودان لا تستغرق سوى بضع ساعات.
وعطفاً على ما تقدم، يجزم الديبلوماسي السابق بأن «الحكومة السودانية لن تتأخر عن العمل لإعادة علاقاتها مع طهران إن لم تفِ السعودية والإمارات بتعهداتهما تجاهها»، وتؤكد معلوماته أن «الخرطوم غير معنية بتصعيد الموقف ضد إيران، هذا أمر لن يحدث، كذلك فإن الخرطوم لن تشارك في أي تحالف عسكري قد يُشكَّل لمواجهة إيران»، خاصة أن الوضع آخذ بالتوتر أكثر فأكثر، بعد قرار الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.