يُتوقّع أن يقدم مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، مارتن غريفيث، خلال الساعات المقبلة، إحاطته الرابعة في غضون أسابيع قليلة إلى مجلس الأمن الدولي. نشاط مكثف للرجل فرضته الوقائع الميدانية، التي لم يعد بإمكان الجهات الدولية التغاضي عنها مهما كانت الدوافع والرغبات والمصالح. والمتوقع، أيضاً، أن يعلن غريفيث موعد بدء جولة جديدة من المفاوضات بين الأطراف اليمنية ومكان انعقادها، وكذلك الخطوط العامة لمبادرته.يمكن القول إن مندوب المنظمة الدولية استطاع تذليل الكثير من العقد التي تواجه خطته. تجلى ذلك في قدرته على إجراء نقاش عميق وشفاف مع قيادة «أنصار الله»، على رغم أن الحركة تعتقد أن المبعوث الأممي إنما يمثّل التوازن الحالي للمجتمع الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الرئيسة في دعم التحالف الذي يشن العدوان على هذا البلد. يدرك غريفيث أن السقوف السياسية المرتفعة بوجه «أنصار الله» لم تعد مجدية بعد صمود استمر طوال ثلاث سنوات ونصف سنة، فيما تبدي الحركة مرونة في التعامل مع خطتَي الرجل، سواء تلك المتصلة بالحديدة أو تلك المتعلقة بالتسوية السياسية الشاملة. تستند الحركة في تعاملها هذا إلى امتلاكها أوراق القوة، وهي في ما تقوم به كـ«المصارع الذي يبدي الليونة أحياناً لسبب فني، إلا أنه لا ينسى من هو خصمه وما هو هدفه الأساسي». في السياق المتقدم، جاءت مبادرة الجانب اليمني في إعلان هدنة أحادية تتضمن وقف العمليات العسكرية البحرية لمدة أسبوعين ابتداءً من منتصف الليلة الماضية، على أن تتمدّد ويتسع نطاقها ما لم يكن هناك أي تصعيد من تحالف العدوان. وفي الإطار عينه أيضاً، كانت الموافقة الفنية المشروطة على تولي خبراء من الأمم المتحدة الإشراف على تفريغ البضائع من ميناء الحديدة.
لقد تعزّزت قوة «أنصار الله» أكثر فأكثر بعد نجاحها في حفظ وحدة الجبهة الداخلية، ومن ثم احتوائها الضربة المؤلمة التي تعرضت لها باستشهاد رئيس المجلس السياسي الأعلى صالح الصماد، وتعيين مهدي المشاط خلفاً له، بشكل سلس ومن دون أي تبعات. على أن الإنجاز الميداني الكبير المتمثل في صدّ هجوم «التحالف» على الحديدة أواخر شهر رمضان الماضي، والذي شكّل مؤشراً قوياً إلى وجهة التفوق الميداني، يعود إليه الفضل الأكبر في إفشال رهانات قوى العدوان، وتبديل وجهة نظر بعض الدول المؤيدة لها، والتي كانت حتى الأمس القريب تراهن على الحل العسكري، وأصبحت اليوم على قناعة بأن الحل الوحيد لمعالجة القضية اليمنية هو عبر المسار السياسي فقط.
كذلك، ألقى فشل دول «التحالف» والقوى اليمنية الملتحقة بها في تحقيق إنجاز ميداني نوعي، بظلاله على تحركات المبعوث الأممي، قبل أن تسقط الادعاءات الوهمية بالنصر، وتنفضح الأحجام الخليجية المتضخمة، بعد فضيحة قرار السعودية وقف صادراتها النفطية عبر باب المندب، على أمل استجرار جيوش الغرب لحماية مصالحه الاقتصادية والجيو - سياسية. وهو الأمر الذي لم تخفه وسائل الإعلام الخليجي، بتأديتها مهمة استجداء التدخل المباشر، ومحاولتها تحريض المجتمع الدولي على تحمل مسؤولياته في ضمان حرية الملاحة البحرية. لكن المفاجأة أن دول العالم تعاطت بلا مبالاة مع القرار السعودي، فيما صدرت ردود خافتة ومتواضعة عن بعض الدول من دون أثر سياسي أو إجرائي.
الشفافية والتفهم اللذان تبديهما صنعاء في مقاربة ملف المحادثات مع المبعوث الدولي، لا يلغيان طلب ضمانات مقابل أي تنازلات ممكنة، إذ لا يكفي مثلاً انسحاب «التحالف» والملتحقين به من الساحل الغربي مقابل تسليم الحديدة إلى جهة محايدة، أو حتى إلى وزارة داخلية حكومة الإنقاذ. ذلك أن الثقة بالأمم المتحدة مفقودة بالمطلق، خصوصاً أن المنظمة الدولية أثبتت أنها لا تستطيع الالتزام بتعهداتها مقابل الإغراءات السعودية الهائلة كما حصل في العديد من المرات، ومنها عندما سحب الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، عام 2016، السعودية من اللائحة السوداء لقتل الأطفال بعد ضغوط مارستها واشنطن وابتزاز مالي من قِبَل الرياض.
على أن الضمانات المطلوبة من غريفيث لا تتعلق ببند بعينه، بل كل بند من مبادرته بحاجة إلى ضمانات، وأولى هذه الضمانات إصدار قرار أممي آخر في شأن اليمن يلغي مفاعيل القرار 2216 المنحاز بالمطلق لمصلحة الجانب الخليجي، والذي يُعتبر عائقاً أمام إحداث خرق سياسي في أي مفاوضات مقبلة، تماماً كما كان مانعاً في المفاوضات السابقة. ويُضاف إلى ذلك البحث عن مرجعية أخرى غير المبادرة الخليجية؛ إذ لا يصح أن تكون السعودية حَكَماً وهي في الوقت نفسه تمارس دور الجلاد. بمعنى آخر، لقد تجاوزت مفاعيل الصمود اليمني على الصعد كافة مفاعيل المرجعيات السابقة. وعلى المبعوث الأممي، من أجل إنجاح المفاوضات التي يُرجَّح أن تنعقد في سويسرا أو السويد، تصحيح الخلل الحاصل في المرجعيات الحاكمة، والتي عفا عليها الزمن وثَبُت انتهاء صلاحيتها، والأخذ في الاعتبار المعطيات التي أفرزتها الحرب طوال السنوات الماضية.
وعلى خط موازٍ للضمانات، ستظلّ «أنصار الله»، لدى مساعدتها في فكفكة كل عقدة من العقد العالقة، واضعةً يدها على الزناد، خشية التعرض للخداع الأممي، مع جاهزية عالية جداً لاسترداد ما تم التخلي عنه. في هذا السياق، يمكن سوق العديد من الأمثلة من تفاهمات سبق للأمم المتحدة أن رعتها، كتفاهم نيسان عام 1996 بين لبنان والعدو الإسرائيلي؛ إذ اعتادت إسرائيل خرق التفاهم بالتعدي على المدنيين اللبنانيين، وقبل كل اجتماع للجنة مراقبة التفاهم في الناقورة في جنوب لبنان يكون رد المقاومة قد أُنجِز، وبدل أن يناقش المجتمعون خرق إسرائيل يُضاف إلى جدول المحادثات رد المقاومة عليه. وهذا سياق طبيعي، لأن المعادلات الإقليمية قائمة على القوة، وليس أي شيء آخر.