نشط المسؤولون الإماراتيون، ومعهم وسائل الإعلام الموالية لأبو ظبي، خلال الأسبوعين الأخيرين، في نفض يد الإمارات من تهمة التخادم مع «القاعدة»، بل والإلحاح على التزام الدولة الثانية في «التحالف» بـ«محاربة» التنظيم. هبة متجددة سرعان ما أثارت شكوكاً في توقيتها، خصوصاً أنها ترافقت مع تسريبات سياسية وتصريحات صحافية لضباط إماراتيين يخدمون في جنوب اليمن، أعلنوا فيها نية بلادهم البقاء في هذا البلد حتى بعد حصول تسوية سياسية بذريعة محاربة «القاعدة»، كون الأخير يهدد السلم الإقليمي والعالمي. كذلك، جاءت محاولة التنصل تلك بعدما سلّطت وسائل إعلام غربية مختلفة الضوء على العلاقة الوطيدة بين «القاعدة» والقوات الإماراتية، التي يساندها الأميركيون باستهداف كل «القاعديين» المعترضين على الصفقات المعقودة مع أبو ظبي. يقول الضباط الإماراتيون إنهم وجدوا أنفسهم فجأة يقاتلون إلى جانب «القاعدة» في عدن. وهذا ادعاء يراد منه التعمية على حقيقة أن «التحالف» استخدم فصائل وتنظيمات متعددة، على رأسها «القاعدة» الذي كان يسيطر على مساحات من محافظتَي عدن وأبين، لمقاتلة «أنصار الله». وهو بالمناسبة «اعتراف» مثير للسخرية؛ إذ لا يعقل أن تقاتل قوات نظامية إلى جانب قوات أخرى صديقة لأشهر من دون معرفة هويتها. خلال السنتين الماضيتين، بدا أن دور «القاعدة» تقلّص إلى الحد الأدنى، وأن نشاط التنظيم العلني كاد ينحصر في عمليات قليلة ومتفرقة، لم تعد تشكل تهديداً للأمن أو خطراً على تواجد قوات «التحالف» والقوى الجنوبية الملتحقة به. ضمور أثار الكثير من الشكوك لدى أبناء المحافظات الجنوبية، خصوصاً أن هذا الهدوء لم يعقب معارك تُذكر شهدتها تلك المحافظات. هنا، تتقدم أنباء التسويات المعقودة بين القوات الإماراتية و«القاعدة» لتوضح أن عناصر التنظيم خرجوا بشكل آمن من المدن الرئيسة بسلاحهم، وبحوزتهم الأموال التي كانوا صادروها من البنوك. وتزامناً مع عقد التسويات المشار إليها، أنشأت القوات الإماراتية معسكرات تدريب، وشكّلت قوات محلية قوامها 60 ألف جندي من القبائل التي كانت تشكل رافداً بشرياً لـ«القاعدة» (النخبة الحضرمية والنخبة الشبوانية والحزام الأمني وألوية العمالقة).
«قاعدة اليمن» مخترق عمودياً من الاستخبارات السعودية والإماراتية


وبالفعل، نجحت الإمارات في الإمساك بالعديد من الشخصيات المفتاحية، والدخول إلى البيئات «القاعدية» بهدف تطويعها، وتحويلها لخدمة مشروعها القائم على تعميم الفوضى، والزجّ بأبنائها في جبهات القتال في الشمال. وفي هذا الإطار، يرجّح العديد من الخبراء والمراقبين أن تكون عمليات الاغتيال المنظمة في عدن هي بفعل خلايا مستأجرة من قبل جهات محسوبة على أبو ظبي. تعزّز التقدير المتقدم حقيقة أن تنظيم «القاعدة» في اليمن مخترق عمودياً من قبل أجهزة الاستخبارات السعودية والإماراتية والأميركية، والتي تسعى إلى فتح مسارات ينشط من خلالها التنظيم بما يخدم أجندات تلك الدول، وتغلقها عند انتفاء الحاجة إليها. وليس أكثر من الأمثلة التي يقدمها اليمن على البصمات الخارجية في عمل «القاعدة». ومن ذلك مثلاً، تسهيل سيطرة التنظيم، قبيل بداية الحرب، على بعض الثكنات والمعسكرات في المحافظات الجنوبية، وذبح العسكريين الشماليين لا على أساس مذهبي بل من منطلقات مناطقية بهدف بثّ الفرقة بين «الشطرين».
يتكون تنظيم «القاعدة» في اليمن من بعض البيئات القبلية النائية في الوسط والجنوب (البيضاء، مأرب، أبين، شبوة، وحضرموت). تمتهن هذه القبائل القتال وقطع الطرق والخطف، وليس شرط انتماء أبنائها إلى التنظيم هو الأيديولوجيا، بقدر ما هو الولاء القبلي والارتهان لإمكانات الشيوخ وقدرتهم على بناء العلاقات، في بنية يُعدّ الانتماء إلى القبيلة فيها أقوى وأفعل من الانتماء إلى «القاعدة» أو غيرها، وهذا ما يكون عادة على حساب الانتماء الوطني أو حتى الديني. وعليه، ليس غريباً، في ظل غياب الكوابح الوطنية، أن تفتح الزعامات القبلية علاقات مع الجهات الخارجية من منطلقات عدة. ومتى تمكنت تلك الجهات من الوصول إلى مفاتيح القبيلة، فهي ستتمكن، بفعل سلطة الشيوخ، من استقطاب أفراد القبيلة، وكذلك النفاذ إلى مفاصلها وفق الحاجة. ومن هنا، يتضح لماذا لم يعمد «القاعدة»، حين سيطر على العديد من المحافظات الجنوبية، إلى التطبيق الصارم للأجندة الخاصة به، بل إنه راعى في تطبيقها عادات القبائل وتقاليدها، خلافاً لما فعله «القاعدة» و«داعش» في المناطق التي سيطرا عليها في العراق وسوريا. والجدير ذكره، أيضاً، أن النظام اليمني السابق استطاع الاستفادة من البيئة التي تتشكل منها «القاعدة» على نطاق واسع، إذ تعمّد إطلاق يد التنظيم، ومن ثم ادعى محاربة أنشطته والحد من توسعها، في إطار سعيه لتقديم نفسه أمام المجتمع الدولي بوصفه محارِباً للإرهاب.