صعدة | بعد فشلها، على مدى ثلاث سنوات ونصف سنة، في إحراز تقدم في 4 جبهات أشعلتها في محافظة صعدة، وضعت السعودية نصب عينيها هدفاً جديداً هو عقبة مرّان... تلك العقبة نفسها التي لم يحاول أحد اجتيازها إلا عَلِق عند أقدامها. ليس الأمر متصلاً بمطمع استراتيجي يمكن أن يبدّل مسار الحرب، وإنما برمزية لمرّان تعود إلى أيام مؤسس «أنصار الله» الذي يحيي اليمنيون اليوم ذكرى اغتياله. أكثر من ستة أسابيع، حاول خلالها المقاتلون السلفيون، ولا يزالون، تحقيق طموح «رفع العلم على مرّان» من دون جدوى، في تكرار لمشهد تاريخي لا يبدو إلى الآن أن السعودية فهِمت درسه.منذ منتصف تموز/ يوليو الماضي، تراجعت حدّة القتال بين القوات الموالية للسعودية، والجيش واللجان في جبهات البقع وباقم وعلب ورازح، ليفتح «التحالف» جبهة خامسة على الحدود مع محافظة صعدة. 3 آلاف مجنّد من السلفيين تم تدريبهم في معسكر ماس في محافظة مأرب لمدة 8 أشهر، وتمّ إدخالهم بعد ذلك عبر منفذ الوديعة إلى معسكر كعب الجابري في جيزان، والدفع بهم لفتح جبهة في مديرية الظاهر في صعدة، تحت مسمّى «اللواء الثالث عروبة» بقيادة العميد عبد الكريم عوبل السدعي. لم تمضِ سوى بضعة أسابيع حتى أعلن العميد السدعي السيطرة على مديرية الظاهر، ووصول قواته إلى عقبة مرّان، مُطلِقاً الوعد بالسيطرة على «معقل الحوثيين» خلال الأيام القليلة المقبلة. وبين وعد السدعي، وتوعّد الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي منذ عام 2015 بالوصول إلى مرّان، وفشل الحروب الـ 6 التي شنّها نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح على صعدة (2004 - 2010)، حقائق تعيد نفسها على نحو مثير للدهشة.
في عام 2004، كان أنصار مؤسِّس «أنصار الله»، حسين بدر الدين الحوثي، بضع عشرات في عزلة مرّان في مديرية حيدان، يضمّهم «مركز الإمام الهادي» في قرية الجميمة، حيث كان نشاطهم يتركّز في التصدّي للسلفية الوهابية التي تغلغلت هناك بدعم من النظام السعودي. رفض نظام صنعاء مطالب حسين الحوثي بضمان التعايش المذهبي، وأوصد بوّابات قصر الرئاسة في وجه كل وساطة من شأنها الحفاظ على الاستقرار في صعدة، ودفع بقوات المنطقة الشمالية الغربية بقيادة الجنرال علي محسن الأحمر لمحاصرة عزلة مرّان، والقضاء على ما وصفه بـ«فتنة الحوثي».
تم تدريب 3 آلاف مقاتل في مأرب ومن ثمّ الدفع بهم للسيطرة على مرّان


تقاطرت قوات الجنرال، ومعظمها من «الإخوان» والسلفيين، من نقطة عين جنوبي مدينة صعدة، لتشقّ طريقها من مديرية ساقين إلى مديرية حيدان، وتفرض حصاراً خانقاً على مرّان. وبعد 3 أشهر من المواجهات غير المتكافئة، اجتاحت قوات صنعاء قرية الجميمة، ودمّرت منازلها، وأحرقت مزارعها، وقتلت الكثير من نسائها وأطفالها. أصيب حسين الحوثي، آنذاك، بشظايا في جسده، فلجأ مع أسرته إلى «جرف سلمان» المقابِل لقرية الجميمة، وظلّ هناك 15 يوماً حتى نفد الماء والغذاء، وكُشف مكانه، ليُقتل أمام أسرته في الـ 10 من أيلول/ سبتمبر 2004 وهو أعزل من السلاح، ويعلن نظام صنعاء «وأد الفتنة».
لكن، لم تمضِ سوى بضعة أشهر على واقعة الاغتيال، حتى انفجر التمرد في معظم مديريات محافظة صعدة، لتخوض قوات الرئيس السابق، بدعم ومشاركة سعوديين، 5 حروب من عام 2005 حتى عام 2010، عجزت خلالها عن العودة إلى مرّان، فيما تمكّن أنصار حسين الحوثي بقيادة شقيقه عبد الملك من فرض سيطرتهم على كامل محافظة صعدة، والانطلاق منها لاحقاً نحو صنعاء، مع ما عناه التطور الأخير من تحولات ستجعل «أنصار الله» رقماً صعباً إن لم يكن الأصعب في اليمن.
في أيار/ مايو 2013، استعادت «أنصار الله» جثمان مُؤسِّسها بعد 9 سنوات من إخفائه في فناء السجن المركزي في صنعاء، ليعود إلى مرّان في موكب لم يشهده اليمن في تاريخه المعاصر، وصفه يومها الكاتب والصحافي عابد المهذري بقوله: «هذه أضخم جنازة أقف أمامها... إنها الأكبر في تاريخ اليمن ومن أكبر الوداعيات في تواريخ العرب». قبّة خضراء تحوي ضريح حسين الحوثي فوق «جرف سلمان» في عزلة مرّان بصعدة. وفي محيطها «رياض الشهداء» التي تضمّ رفاقه وأتباعه الذين قتلوا في الحرب الأولى والحروب التي تلتها. في أسفل الجبل من الجهة الشمالية «روضة الشهيد زيد علي مصلح» الذي قضى قبل أيام من مقتل حسين الحوثي، وكان الأقرب إليه من بين رفاقه، وهو القائل: «سأجعل من مكاني هذا سُلّماً للنصر أو معراجاً للشهادة». وفي الجهة الجنوبية من جبل مرّان مرتفع العقبة، وفيه «روضة الشهيد عدنان العياني»، «بطل الحرب الخامسة» كما هو مُدوّن على ضريحه. كذلك، ثمة «روضتان» في الشرفة، أعلى مرتفع في مرّان، و«رياض» أخريات في قرى الجني وسلمان وجبل عيسى وجميعها في مرّان. ضريح المؤسّس و«رياض الشهداء» تحوّلت إلى مزار يومي للملتحقين بحركة «أنصار الله» من كل محافظات اليمن، والذين تواصل توافدهم إلى مرّان منذ منتصف عام 2013 وحتى الـ 17 من تموز/ يوليو 2015، عندما قصف طيران «التحالف» ضريح الحوثي بـ 12 غارة جوية، وكأن الرجل لا يزال مطلوباً حياً أو ميتاً.

... «حتى يسقط هُبل»
لا تُستهدف مرّان لوجود زعيم «أنصار الله» فيها، فلا شواهد على ذلك. وحتى لو تمكّنت القوات التابعة للسعودية من الوصول إليها بمعجزة، فإن الأمر لن يكون نصراً يرجّح كفة الرياض في الحرب. فمرّان عبارة عن مرتفعات في منطقة نائية في شمال غرب محافظة صعدة، وتبعد عن مركز المحافظة 90 كيلومتراً، لكن استماتة «التحالف» في الوصول إليها يرجع إلى ما تمثّله من رمزية للحركة وأنصارها.
كل الطرق اليوم لا تؤدّي إلى مرّان؛ فمن الشرق مديرية شدا وهي تحت سيطرة الجيش واللجان، ومن الجنوب مديرية ساقين ولا خطر يتهدّدها، ومن الغرب مديرية رازح التي برع سكانها في صناعة الخناجر والأسلحة البيضاء من شظايا الصواريخ والقذائف التي تستهدف مناطقهم من داخل المملكة. «اللواء الثالث عروبة» بقيادة العميد السدعي تقدّم ــــ بدعم وإسناد سعوديين ــــ من معسكر كعب الجابري في جيزان إلى سوق الملاحيظ في مديرية الظاهر شمال غرب صعدة، على مسافة 5 كلم من الحدّ الجنوبي للسعودية، ولا يزال هناك. فوق سوق الملاحيظ، الذي كان نقطة تهريب لأعشاب القات إلى الداخل السعودي، تتربّع جبال مرّان ورازح. ومن أعلى قمّة في مرّان (الشرفة)، تتراءى الأضواء ليلاً في الخوبة وأحد المسارحة ومحايل وخميس مشيط، ونهاراً تتبدّى من مرّان بالعين المجردة كل التفاصيل في حرض والمزرق. وفي جبال الدخان والدود والرميح في جيزان، يتمركز مقاتلو الجيش واللجان منذ عام 2015، فيما لا تزال القوات السعودية عاجزة عن إخراجهم منها.
من سوق الملاحيظ إلى قمة جبل مرّان طريق ترابية (17 كلم) تتلوّى صعوداً بين المدرّجات الزراعية والمرتفعات المسنودة بعضها ببعض، والتي تؤوي في بطونها مئات الأسر التي دمّر الطيران السعودي منازلها. منذ الحرب الثانية في عام 2005، ومرّان مترس للثأر لا خيمة للعزاء. ففي العام نفسه، تقدّم «لواء العمالقة»، أكبر ألوية جيش صالح، من سوق الملاحيظ الذي يحاول «لواء السدعي» اليوم الصعود منه إلى مرّان. قُتل حينذاك وجُرح أكثر من 1000 ضابط وجندي من «العمالقة»، ولم يتمكّن اللواء من اجتياز العقبة، وظلّ متعثراً هناك حتى الحرب الخامسة في عام 2008.
ومن الحرب الثانية في عام 2005 حتى الحرب السادسة، رابط الجنرال علي محسن الأحمر في معسكر «كمب البريطانيين» في مديرية الظاهر، واستقبل الآلاف من السلفيين و«الإخوان» مِمَّن أُطلق عليهم «البيشمركة»، ودفع بهم للسيطرة على مرّان. قُتل وجرح المئات أيضاً، وتعثّر الجميع عند أقدام الجبال. في الحرب السادسة عام 2010، اشتركت القوات السعودية مع قوات صنعاء في الحرب على صعدة، وفي المقدمة مرّان. عشرات الألوية وقصف جوي لم يُبق قرية ولا مرتفعاً إلا استهدفه بأطنان من الصواريخ والقنابل العنقودية. وبعد شهور من الحرب الوحشية، انقشع غبار المعارك بسقوط جبال الدود والدخان والرميح وسهل الخوبة ووادي جارة في جيزان بيد مقاتلي «أنصار الله»، وبجانب ذلك عشرات الأسرى من الضباط والجنود السعوديين الذين لم يُطلَق سراحهم إلا باتفاق بين الحركة والنظام السعودي.
تنصّلت الرياض من اتفاقها، وعاودت الحرب على صعدة وكل اليمن في الـ 26 من آذار/ مارس 2015. لكن القيادي الميداني في «أنصار الله»، وابن منطقة مرّان، إبراهيم العياني، يرى أن «هذه الحرب الظالمة تحمل نهاية النظام السعودي»، مؤكداً في حديث إلى «الأخبار» «(أننا) ندافع عن أنفسنا وكرامتنا وأرضنا بكل وسيلة مشروعة تتاح لنا، وسنواصل الدق بأزاميلنا في الصنم الجاثم على صدورنا حتى يسقط هُبل».



مقابر جماعية للسلفيين


علّقت السعودية آمالها، في ما يتصل بالجبهة الحدودية الجنوبية، على 14 لواءً سلفياً اعتقدت أن بمقدور عناصرها صدّ هجمات الجيش واللجان على جنوب المملكة، و«قطع رأس الأفعى» في صعدة. لكن هؤلاء عجزوا عن الثبات في مواجهة مقاتلي «أنصار الله»، حتى إن فداحة الخسائر في صفوفهم ألجأت المملكة إلى دفن قتلاهم في مقابر جماعية في منطقة الخضراء بنجران، ومنطقة أحد المسارحة بجيزان. وفوق ذلك، أوقفت «قيادة القوات المشتركة»، بحسب ما تفيد مصادر في المستشفى العسكري في ظهران الجنوب «الأخبار»، «المساعدات التي كانت تُقدّم لأسر القتلى والجرحى اليمنيين في جبهات صعدة، ووجّهت الإدارة التنفيذية في مركز سلمان للإغاثة بصرف معونات شهرية لهم، بعدما كان يُسلّم 100 ألف ريال سعودي لأسرة كل قتيل، و25 ألف ريال سعودي لكل جريح».