تتسارع الأحداث الميدانية في جنوب اليمن بين طرفَي النزاع: «الشرعية» اليمنية مدعومة من السعودية، و«المجلس الانتقالي الجنوبي» مدعوماً من الإمارات، وهو صراع تتغير فيه خرائط السيطرة والنفوذ بين يوم وآخر وليلة وأخرى. فالأحداث الميدانية تأخذ طابع الكر والفر وإن كانت الأرجحية لمصلحة «الانتقالي» في الساعات الماضية. تستخدم قوات الطرفين آليات رباعية الدفع تنقل المقاتلين من مكان إلى آخر، ولم يلحظ أن طرفي النزاع اعتمدا خطوطاً دفاعية عسكرية أو سواتر ترابية واستحكامات ثابتة، كما لم يلجآ إلى حرب المدن والعصابات، ولا وجود لخطوط التماس بين جبهتين. وكلا الطرفين يفعّل علاقاته القبلية والمناطقية والحزبية لإغراء كبار ضباط الطرف الآخر أو الضغط عليهم بغية تحييدهم عن المعركة، وفي كثير من الأحيان، تنجح المساعي في الوصول إلى غايتها. يستخدم طرفا النزاع مواد دعائية وتحريضية ذات أبعاد محلية، بينما يستفيد «الانتقالي» من الشحن العاطفي والنزوع إلى الانفصال والاستقلال والدفاع عن الأرض مقابل قوى الشمال الغازية، ومركز دعايته في هذه النقطة مأرب التي تعد محافظة خالصة لـ«الإخوان المسلمين»، وذلك لتحفيز المقاتلين والمواطنين الجنوبيين، وصبغ المشروعية على قتاله. أما «الشرعية»، فتستخدم دعاية الحفاظ على وحدة الأراضي اليمنية من دعاة التقسيم الإقليميين (الإمارات) والمحليين. لكن طرفي النزاع متفقان على أن كلاً منهما يعمل لتنفيذ الأجندة الخاصة لدولة واحدة من دول «تحالف العدوان» (السعودية أو الإمارات) على حساب بلده وأرضه. واللافت أنهما يعترفان بأنهما يعملان وفق مصلحة إحدى دول «التحالف»، والذريعة أنهما يدافعان عن البعد القومي والإقليمي لليمن، مع العلم بأن العديد من الناشطين السياسيين والنخب التي كانت تدين بالولاء لـ«التحالف» باتت تعلن مواقف علنية تتهم الرياض وأبو ظبي بأنهما يعملان لأجندتهما الخاصة دون الأخذ بالاعتبار مصالح الوكلاء المحليين.رغم حملات التحريض والشحن للمقاتلين، فإن قوات الطرفين لم تتعاملا بعضهما مع بعض بالعنف والشراسة. وقد بث ناشطون أشرطة فيديو من الطرفين وهي تسيطر على مواقع الخصم، ثم تطلق سراح عناصره دون أذى، فضلاً عن أن الحافزية القتالية والروح المعنوية مفقودة، ويغلب الجانب الوظيفي أو المعيشي على ما عداه من الجوانب. وتدرك الأطراف المحلية أنها تخوض الحرب دون أهداف وطنية، وهي حرب الآخرين للسيطرة على أرضهم، وتستخدم القوى المحلية فيها بيادق لطرفي التحالف السعودي ــــ الإماراتي.
الجانب الإماراتي الذي يستشعر قرب انتهاء الحرب يبدو أكثر استعجالاً في حسم المعركة لوكلائه، فأدخل طيرانه الحربي وأغار على مواقع «الشرعية» أمس في مفرق العلم شرق مدينة عدن، ومدينة زنجبار مركز محافظة أبين، ما أدى إلى مقتل العشرات ومئات الجرحى من القوات الحكومية، وهي المرة الأولى التي يسقط فيها هذا العدد من القتلى في يوم واحد، كما أنها المرة الأولى التي تتدخل فيها الإمارات مباشرة في الاحتراب المحلي، الأمر الذي غيّر موازين القوى على الأرض لمصلحة قوات «الانتقالي» التي سيطرت على زنجبار، فيما عمد مواطنون إلى نهب محتويات المقار الحكومية والأمنية فيها.
يرى المراقبون أن معارك الأصدقاء والحلفاء في المحافظات التي تسمى محررة لها نظير في الحروب، وأن هذا ما يحصل عادة بين الحلفاء في آخر الحرب، فيتواجهون عبر الوكلاء، ولا سيما إذا لم يكونوا متفقين مسبقاً على غنائم الحرب وتقاسم النفوذ. وفي العمق، تعتبر المعركة الحالية تعبيراً عن تطلعات أبو ظبي في الجنوب، وهي أطماع أكبر من حجمها وفق المفهوم السعودي، وقد سعت إلى فرض هذه التطلعات باقتطاع المحافظات الجنوبية أو على الأقل المدن الساحلية والجزر اليمنية وتطويبها على أساس أنها حصتها من غنائم الحرب، فيما ترفض الرياض عملياً هذا الطرح وتعمل بوسائل شتى على تقليص تطلعات الإمارات وإعطائها ما ترى أنه متناسب مع حجمها. تعمد الرياض إلى وضع خطوط حمر لمنع تجاوز أبو ظبي الدور الموكل إليها في «التحالف»، عبر وكلائها في الميدان («الشرعية» وحزب «الإصلاح» الإخواني)، وفي الوسائل السياسية، وبالاستفادة من السلطات (الرئاسات) الدستورية اليمنية الثلاث التي تدين بالولاء الكامل لها.
لكن الجانبين السعودي والإماراتي حرصا على ألا يقعا في محذورين اثنين: أولاً لا عداوة علنية بينهما وما يجمعهما تحالف استراتيجي في مجمل قضايا الإقليم، والثاني ألا يؤثر خلاف الوكلاء في اليمن فيتحول إلى اشتباك سياسي بين الرياض وأبو ظبي. لكن هذه القاعدة تعرضت للاهتزاز أمس، إذ نقلت وكالة «رويترز» عن مصادر وصفتها بالمطلعة، في تسريب يبدو أنه غير بريء، أن «العاهل السعودي الملك سلمان خطا هذا الشهر في قصره بمكة خطوة غير مألوفة، إذ أبدى انزعاجه الشديد من الإمارات أقرب الشركاء العرب إلى المملكة». وفق الوكالة، يبدو أن هذا التعليق دليل على شرخ في «التحالف» الذي يقوده نجل الملك وولي عهده الأمير محمد، وولي عهد الإمارات محمد بن زايد.
على أي حال، التطورات الإقليمية وجنوح الأميركي إلى خيار اللاحرب تجاه إيران والصمود اليمني اضطرت كلها الإمارات إلى أن تنتهج سياسة متوازنة بين الاستدارة الأخيرة القاضية بإنهاء العداء مع الجمهورية الإسلامية، والانسحاب من اليمن، والثبات في علاقتها مع السعودية، فضلاً عن بقائها كفريق ثانٍ في التحالف، وهي مهمة معقدة وشائكة ودونها عقبات حتى الآن.