تعليقاً على الهجمات التي تعرّضت لها شركة «أرامكو» السعودية، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال القمة الثلاثية التي جمعته مع نظيريه التركي والإيراني في أنقرة حول التسوية السورية: «عليّ هنا أن أستشهد بآيات من القرآن الكريم: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين». وأضاف مازحاً أنّ على السعودية، إذا أرادت الدفاع عن نفسها، أن تحذو حذو إيران التي اقتنت من روسيا صواريخ «S 300»، وحذو تركيا التي اشترت الـ«400 S»، فهذه الصواريخ «وسيلة ناجعة لتأمين وحماية أيّ بنى تحتية من أيّ اعتداء وهجوم جوي». وبالتوازي مع تصريح بوتين، أشارت وكالة «إنترفاكس» إلى أن شركة تصدير الأسلحة الحكومية الروسية أعلنت إجراء موسكو محادثات مع «شركاء في الشرق الأوسط» لبيع منظومة جديدة مضادة للطائرات المسيّرة. لم تكشف الوكالة هوية هؤلاء الشركاء، لكن على غالب الظن، فإنهم يضمّون دولاً خليجية ما زالت حتى الساعة متحالفة حصرياً مع الولايات المتحدة.الرئيس الأميركي، من جهته، بعد أن أعرب عن اعتقاده بأن إيران تقف وراء الهجوم، على رغم إقراره بأن من المبكر الجزم بذلك، ونفيه لرغبته في الدخول بصراع معها، كرر ابتزازه المالي الفجّ لحكّام المملكة مقابل مساعدتها: «الحقيقة أن السعوديين ستكون لهم مشاركة كبيرة إذا قرّرنا أن نفعل شيئاً ما، وهذا يتضمن الدفع، وهم يفهمون ذلك بشكل كامل». تعامُل ترامب مع تطور بارز كقصف «أرامكو» بعقلية التاجر والمضارب الصغير، الذي يحاول اقتناص الفرص مهما كانت لتعظيم المكاسب المالية الآنية، لا يحجب واقع أن الولايات المتحدة في وضع في غاية الصعوبة. خيار الانتقال من الحرب الهجينة التي تشنها على إيران وحلفائها، إلى الحرب المفتوحة ستترتب عنه أكلاف هائلة قد لا تحتملها، وخيار الاستمرار في الأولى، مع ما يستدعيه من ردود من أطراف محور المقاومة، ستكون له تداعيات كبيرة على هيبة الولايات المتحدة وقدرتها على السيطرة على مناطق عديدة من العالم وعلى علاقاتها مع حلفائها.
لا بد من التذكير بداية بأن التصاعد الحالي للصراع في الإقليم بمجمله، هو نتيجة مباشرة للحرب الهجينة التي باشرتها الولايات المتحدة ضد أطراف محور المقاومة منذ وصول دونالد ترامب وفريقه إلى السلطة، ودخلت في مرحلة أعلى مع إعلان سياسة «الضغوط القصوى» على إيران. ترامب يعيد ويكرّر أنه يريد تجنب مواجهة مباشرة مع إيران. هو يريد فقط خنقها اقتصادياً وتجارياً، وعزلها عن العالم، والتموضع العسكري في جوارها، والتحرّش بها من حين لآخر لاختبار مدى جاهزيتها للدفاع عن أراضيها، كما حصل عند إرساله لطائرة التجسس المسيّرة التي أسقطتها الدفاعات الإيرانية، وإطلاق يد إسرائيل لقصف حلفائها في سوريا والعراق ولبنان، ودعم استمرار الحرب السعودية الإجرامية ضد اليمن، مع تجنبه للصدام المباشر معها. إضافة إلى كل ذلك، فإن الغاية المعلنة لسياسة الاستنزاف هذه، حمل إيران وحلفائها على الخضوع لشروط الولايات المتحدة والاستسلام الكامل لهيمنتها المشتركة مع إسرائيل على المنطقة. فالسبب الرئيس لكل التأزم الذي نشهده حالياً، والذي ينبغي أن يبقى حاضراً في الذهن عند تحليل مساره ومآلاته المحتملة، هو الإصرار الأميركي على الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي النوعي على دول الإقليم وشعوبه، والمهدد بفعل تطوير أطراف محور المقاومة قدراتهم العسكرية والصاروخية.
هذه الأطراف مدركة لطبيعة سياسة الاستنزاف أو القتل البطيء المعتمدة من قِبَل واشنطن، والمترافقة مع إرادة تلافي حرب مفتوحة معها، حتى الآن على الأقل، وتتصدى لها انطلاقاً من هذا الإدراك. ضربة «أرامكو» نقلة نوعية في عملية التصدي، تضع إدارة ترامب، بحسب العديد من المحللين الأميركيين، في مأزق شديد الصعوبة. جورج فريدمان، الخبير الاستراتيجي الأميركي ومؤسس موقع «جيوبوليتيكال فيوتشر»، عكس هذا الاعتقاد في مقال بعنوان «الخيارات العسكرية الأميركية في إيران». وبعد اعترافه بصعوبة الموقف الذي تجد الولايات المتحدة نفسها فيه، استعرض فريدمان مجموعة من الخيارات التي قد تدرس إدارة ترامب إمكانية اللجوء إليها للرد على قصف منشأتي «أرامكو»، وهي تراوح ما بين فرض المزيد من العقوبات على إيران، مروراً بمحاصرة موانئها وبإغلاق مضيق هرمز أمام سفنها، وانتهاءً بسيناريوات مختلفة لضربات عسكرية تستهدف مصانع الطائرات المسيّرة، والصواريخ أو عملية غزو برية لقسم من الأراضي الإيرانية أو شنّ الولايات المتحدة حرباً على حزب الله لتدميره وإفقاد إيران حليفاً ثميناً. ويعترف فريدمان، خلال عرضه لهذه الخيارات، بمخاطرها ونقاط ضعفها الكثيرة، ليخلص إلى أن «الإيرانيين يعرفون أنهم يضعون الولايات المتحدة أمام معضلة. هم يراهنون على أن كلفة الرد ستكون مرتفعة جداً بالنسبة إليها. لكن المشكلة في المقاربة الإيرانية، أنها لا تستطيع أن تتأكد إلى أي مدى تنظر الولايات المتحدة إلى التوسع الإيراني باعتباره تهديداً لمصالحها الطويلة الأمد... يبدو أن لا خيارات عسكرية مناسبة. عدم الرد يعني أن التحالف المعادي لإيران بقيادة الولايات المتحدة سيتفكك. قد يكون الخيار المرجح، ولكن غير المؤكد، ردّاً رمزياً. لكن المشكلة مع عمليات الرد أنها كثيراً ما تخرج عن السيطرة».
استبعاد الخيارات العسكرية، نتيجة التغيير في موازين القوى إقليمياً ودولياً، الذي يتجاهله فرديمان، ستكون له مفاعيل أخرى لا يأتي أيضاً على ذكرها. بين هذه المفاعيل المحتملة سعي دول الخليج إلى بناء شراكات أخرى على المستوى العسكري مع الدول المنافسة للولايات المتحدة كروسيا والصين، والأخطر، على المستوى السياسي، من خلال طلب توسط روسي مثلاً مع إيران لإيجاد مخرج للأزمة الحالية. إذا لم تعد الولايات المتحدة قادرة على حماية المصالح الحيوية لحليف كالسعودية، فلماذا لا يمكن تصور توجّهه لروسيا طلباً للتوسّط؟ العجز الأميركي سيفتح ثغرات تتسلّل منها روسيا، وربما الصين، في الميادين العسكرية والسياسية. بُعد آخر يرتبط بمحور المقاومة الذي أظهر، استناداً إلى الاتهامات الأميركية، استعداداً لتجاوز الخطوط الحمر، أي صناعة النفط وما يسمى «أمن الطاقة الدولية»، التي لم يجرؤ على تجاوزها أي طرف قبله، وانعكاس ذلك على قوّته وتأثيره وقدرته الرادعة في الإقليم. أما الانعكاسات الدولية للأزمة الراهنة، فقد تكون الأخطر. فإذا كانت قوة إقليمية متوسطة كإيران تجرؤ على تحدّي الولايات المتحدة من دون حصول رد، فكيف ستتصرف مستقبلاً قوى دولية كروسيا والصين، المستهدفتَين باستراتيجية احتواء أميركية تستند، في ما تستند إليه، إلى بعض دول جوارهما؟ كيف ستتعامل روسيا مثلاً مع بعض دول البلطيق الأطلسية بجنون كليتوانيا، إن رأت أن الولايات المتحدة تتجنب الصدام مع إيران؟ واشنطن في مأزق، والأزمة الحالية مؤشر جديد على تراجع سيطرتها وسطوتها.