يبدو أن قادة بعض الدول الخليجية لا يعرفون من الاستراتيجية غير ما يعزز صورتهم عند الجمهور. لكن المشكلة أنهم لا يهتمون إذا كانت الصورة سلبية أو إيجابية. المهم بالنسبة إليهم أصل المسألة، وهي الصورة. ومن الواضح أن أبناء زايد، ولا سيما منهم ولي عهد الإمارات محمد، يمارس هواية محمد بن سلمان نفسها في التشاطر على أبناء بلده قبل الآخرين، معتقداً أن الأموال كافية لعلاج أي مشكلة.لكن المستجد هو إدراك الإمارات الهزيمة الفعلية في اليمن ومناطق أخرى من المنطقة. وسوء الوضع الاقتصادي في الإمارات المتنوعة، لم يكن كافياً لإقناع أبناء زايد بإعادة النظر في سياساتهم، بل هم يواصلون اللعب على الحبال، معتقدين بأن الفرصة لا تزال متاحة أمامهم لتحقيق نجاحات لا يمكن أن تحصل عكس مسار التاريخ.
على طاولة قادة الإمارات اليوم عدة ملفات، أبرزها المشكلة الداخلية المتنامية، حيث يرتفع الصوت الاعتراضي من كل قادة الإمارات الست، وبعض الأصوات داخل أبوظبي نفسها. لكن أولاد زايد يتصرفون على أن الأمر ممسوك، وأن المهم هو درء الخطر الخارجي. ومع اشتداد الأزمات الناجمة عن حرب اليمن، دفع ملف آخر على الطاولة يتعلق بإمكانية وشيكة ودائمة لتعرض دولة الإمارات، ولا سيما إمارتي أبوظبي ودبي، لضربات قاسية من جانب «أنصار الله». وهو ما جعل قادة الإمارات يعيدون النظر في بعض الحسابات، لكنهم لم يلامسوا أصل الموقف القائل بالإقرار بالهزيمة والخروج من المأزق. وهم يتصرفون الآن على أساس أن ما أنفقوه من جهود وأموال ودماء في الملف اليمني، لا يمكن أن ينتهي من دون حصاد، وخصوصاً أنهم يفكرون في الأيام التالية على وقف الحرب، لا سيما العلاقات داخل مجلس التعاون الخليجي وما يحصل مع إيران وبقية دول المنطقة.
حاول الإماراتيون مدّ جسور التواصل مع إيران بغية إقناعها بالضغط على الحوثيين لأجل القبول بعدة أمور، منها عدم القيام بأي عمل عسكري ضد الإمارات، والقبول بفكرة إعادة تقسيم اليمن بين الجنوب والشمال، ومنها عقد اتفاقات مع الإمارات للإشراف على جميع الموانئ البحرية لليمن المطلة على بحر العرب والبحر الأحمر. وقدّمت الإمارات، في المقابل، تسهيلات لإيران كي تتجاوز العقوبات الأميركية، وتعد بأنها ستقود أكبر عملية إعادة إعمار لليمن كله، وأنها ستتولى تنظيم علاقة اليمن بالسعودية.
حتى الآن، فشلت كل هذه المساعي، لكن الإمارات واصلت لعبتها داخل اليمن، لناحية فرض أمر واقع في الجنوب من خلال تعزيز سيطرة «المجلس الانتقالي الجنوبي» وأنصارها على مرافق الدولة وعلى أغلبية المحافظات الجنوبية، ومن خلال استمرار جلب المرتزقة من أفريقيا ودول أخرى للقتال في الجبهات مع الشمال. لكن ذلك لم يحسم الأمر، مع انتقال غالبية القوى والشخصيات المحيطة بعبد ربه منصور هادي إلى الموقع المعارض لكل سياسات الإمارات، وارتفاع مستوى الخطاب الرافض للاحتلال الإماراتي، واتساع حجم الفجوة بين النظرتين الإماراتية والسعودية لإدارة ملف الجنوب.
يقدّر عدد المقاتلين المنضويين إلى هذه الفصائل المموّلة من الإمارات بحوالى 90 ألف مقاتل


لكن الإمارات، الراغبة على ما يبدو في تسوية عامة للملف اليمني، لكن شرط إبقاء سيطرتها على الجنوب، أو على محافظة عدن، تعيش مأزق الخطوات العملانية المطلوبة منها، لا سيما الخروج العسكري والأمني من كل الجبهات اليمنية، ووقف مدّها بالعناصر القتالية البشرية والمادية، ووقف أسطول النقل القائم من القرن الأفريقي باتجاه سواحل اليمن الغربية. وفي كل مرة يشتد فيها الخناق، تلجأ الإمارات إلى جماعتها وأعوانها من داخل اليمن، وإلى وسائل الإعلام التابعة لها في المنطقة، لإشاعة مناخات ومعلومات عن مباشرتها إعادة التموضع وبدء الانسحاب من اليمن. لكن المراقبين والمتابعين على الأرض ينفون بصورة مطلقة حصول أي تطور له قيمة سياسية أو أمنية أو عسكرية حتى الآن.

وضعية الإمارات اليوم
وكشفت جهات يمنية متابعة لما يجري تفاصيل تخص «الوضعية الكاملة لدولة الاحتلال الإماراتي في اليمن»، والتي تنقسم بين الدور القيادي والتوجيهي، والدور العملاني على الأرض.
تتولى الإمارات إدارة المعارك في مناطق الساحل الغربي ومدينة الحديدة، ويوجد مقر القيادة في مدينة المخا، علماً بأن القوات العسكرية الإماراتية لا توجد في الأماكن العامة، ولا تقبل أي مهمة تتعلق بحفظ الأمن الداخلي، كما ترفض بصورة قاطعة الانتشار على الخطوط الأمامية في مواجهة «أنصار الله». وتطلب الإمارات (كما السعودية) من القوى المتحالفة معها تولي حفظ الأمن الداخلي، مع الإشارة هنا إلى أن القيادة الأمنية والعسكرية الإماراتية هي التي تشرف حصراً على عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية التي يعلن أنها خاضعة لحكومة هادي، لكن هذه الأجهزة لا تعود إليه البتة. ويحصل تعاون بينها وبين عناصر الشرطة المحلية التي يوالي معظم ضباطها الإمارات. وهذه الأجهزة تتولى عملياً مسؤولية الأمن في عدن والضالع وأبين ولحج.
ويقدّر عدد المقاتلين المنضويين إلى هذه الفصائل المموّلة من الإمارات بحوالى 90 ألف مقاتل، وتتوزع كالآتي:
- قوات «الحزام الأمني» وتنتشر في عدن والضالع وأبين ولحج، ويصل عديدها إلى نحو 15 ألف مقاتل.
- قوات «النخبة الحضرمية»، وعديدها يصل أيضاً إلى نحو 15 ألف مقاتل، وتتولى العمل في ساحل حضرموت.
- قوات «النخبة الشبوانية» العاملة في مديريات شبوة، ويتراوح عديدها بين 4 و6 آلاف مقاتل.
- «ألوية العمالقة» (غالببية عناصرها من التيارات السلفية التكفيرية)، وهي التي قاتلت طوال الوقت (حتى الأمس) في مناطق الحديدة والساحل الغربي، وتقدّر بـ 20 ألف مقاتل.
- مجموعات «حراس الجمهورية»، يتزعمها طارق صالح ابن شقيق الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، وتجمع نحو 20 ألف مقاتل، وهي التي تنتشر في المناطق الغربية، وتتولى مع «ألوية العمالقة» الآن المسؤولية عن تلك المناطق، إلى جانب «الألوية التهامية» (أقل من أربعة آلاف مقاتل)
- «كتائب أبو العباس» المنتشرة في تعز بقوات يصل عديدها إلى أربعة آلاف مقاتل.
أما خارطة توزّع النفوذ الإماراتي مقابل السعودية وحكومة هادي، فهي باتت اليوم على الشكل التالي:
- الفصائل المحسوبة على الإمارات: عدن، لحج، الضالع، قسم من أبين، ساحل حضرموت
- حكومة هادي ومن خلفها السعودية: شبوة، المهرة، قسم من أبين، وادي حضرموت
فيما الصراع يشتد بين الإمارات والسعودية على جزيرة سقطرى التي لم يجر حسم الموقف لمصلحة أي منهما بعد.
كذلك، نشطت الإمارات من دون توقف في توسيع رقعة انتشارها في المحافظات الجنوبية الشرقية، وسعت إلى إنشاء قوات نخبة في محافظات المهرة وسقطرى. وتم خلال الأشهر القليلة الماضية نقل المئات من أبناء هاتين المنطقتين إلى معسكرات تدريب في حضرموت وعدن.
وقد حافظت قوات الاحتلال الإماراتي على وجود قيادي في المنطقة الجنوبية، وهي لم تترك هذه المنطقة أبداً، رغم كل الأخبار والادعاءات، كذلك حيث يوجد هناك مقر القيادة العامة الإماراتية (البريقة)، ومقر العمليات العسكرية للساحل (المخا)، وقاعدة مدفعية الساحل (الخوخة). أما مقر قيادة المحافظات الشرقية للقوات الإماراتية فمقرّه في مطار الريان (حضرموت) حيث يحضر إلى هناك مستشارون أجانب يعملون في مجال الاستخبارات العسكرية ويتركز عملهم على شؤون الطيران المسيّر.
كذلك تحتفظ الإمارات بقاعدة العلم (شبوة). ويتحدث الأهالي عن وجود دائم لعناصر أجانب، أميركيين وبريطانيين، في تلك القاعدة، كذلك في مقر قيادي في قاعدة بلحاف (شبوة) حيث كثافة النفط والغاز المسال، إضافة إلى قاعدة الضبة (ساحل حضرموت). أما قاعدة عصب الجوية (إريتريا)، فهي تقوم بعدة أدوار لا تخص اليمن فقط، بل تشمل ليبيا.
تتولى المقارّ القيادية الإماراتية، التي يشغلها ضباط إماراتيون من اختصاصات مختلفة، إدارة الشؤون العامة لكل الفصائل؛ من دفع الرواتب والموازنات، وتقديم الحاجات اللوجستية والعسكرية والذخيرة على أنواعها، إضافة إلى الإشراف على عمل الشرطة في جنوب اليمن، مع تركيز على التنسيق المفتوح مع رئيس أمن عدن شلال شايع، ورئيس مكافحة الإرهاب يسران المقطري. ويوجد في المقار الإماراتية فرق تدير قوات جوية، خصوصاً مروحيات «أباتشي»، التي تتدخل عادة لإسناد الفصائل على الأرض.
لكن، يوجد لقوات الاحتلال فرق أمنية متخصصة، تعمل على جمع المعطيات عن كل الشخصيات اليمنية العامة والقبلية والعاملة في مؤسسات الدولة. ويتم من خلال هذه القواعد الأمنية إدارة العلاقات مع الزعماء المحليين والقبليين وعمليات التجنيد وشراء الولاءات. لكن عمل القوة الناعمة لم يتوقف من جانب قوات الاحتلال الإماراتي، خصوصاً حيث ينشط «الهلال الأحمر الإماراتي» على نطاق واسع في توزيع السلال الغذائية وفي المجال الطبي ومعالجة الجرحى والقيام بدورات تدريبية في مجال الصيد السمكي والزراعي وغيرهما، ويحرص على الإعلان عن نشاطاته أسبوعياً عبر وسائل الإعلام الممولة والمُدارة من قبله، مع العلم بأن قيادة قوات الاحتلال تحرص على بقاء مستودعات «الهلال الأحمر الإماراتي» في القواعد العسكرية. مع الإشارة إلى كثرة كلام أبناء الجنوب عن تحول العمل مع «الهلال الأحمر» إلى مدخل للتجنيد الأمني.
على أن أبرز ما قامت به الإمارات جنوب اليمن، هو تأسيس «المجلس الانتقالي الجنوبي» الذي يضم قيادات ميدانية وسياسية من حوالى 27 قيادياً لديهم مكتب سياسي ومجلس نيابي، إضافة إلى مجلس تنفيذي ومجالس فرعية، مع الحرص الدائم من جانب أبوظبي على استضافة قيادات «المجلس الانتقالي» البارزة في داخل الإمارات، لا سيما عيدروس الزبيدي وهاني بن بريك، وتنفق عليهم مبالغ طائلة في ما بات يعرف في الجنوب بـ«الصرفيات الشخصية»، من دون إغفال إنفاق الإمارات ملايين الدولارات على وسائل إعلامية ومواقع إخبارية رقمية ومنصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى مواقع إلكترونية، وإذاعات، وفضائيات، أبرزها «الغد المشرق» التي تبثّ من أبوظبي.



ميناء عدن... والمعابر البحرية
لم تتوقف الإمارات عن سعيها الدائم، إما إلى تعطيل أي فرصة لقيام موانئ قوية وناجحة منافسة لها في المناطق القريبة، أو العمل على وضع يدها عليها. وأنفقت مئات ملايين الدولارات لأجل السيطرة على بوابات بحرية كثيرة على ساحل البحر الأحمر، لكنها ظلت على الدوام تفكر في كيفية السيطرة على ميناء عدن. ومنذ اليوم الأول لاندلاع العدوان على اليمن، كانت قوات الاحتلال الإماراتية قد جهّزت قواتها ومجموعات موالية لها للانتشار في ميناء عدن وكل الطرق المؤدية إليه، ونشرت قوات بحرية قبالة المدينة الساحلية. ومنعت أي أشغال تطويرية للمرفأ، واكتفت بإدارته وتشغيله بطريقة تمنع تحوله إلى مرفأ منافس، خصوصاً لدبي. وكانت نتيجة احتلالها إلى الآن تقليص حركة الصادرات والواردات عبره، ولم يحل دون سياستها كل نشاط احتجاجي قام به يمنيون جنوبيون، أو حتى حكومة هادي. وقد لامست الضغوط حداً اضطر السعودية إلى إرسال سفيرها في اليمن إلى الميناء، والعمل من أجل تطوير احتياجاته وإعادته إلى العمل.
ومع الوقت، توسع النفوذ الإماراتي ليشمل جميع المرافق البحرية (البحر الأحمر وبحر العرب) في المكلا والمخا والخوخة. وقد بذلت الإمارات الجهود الكبيرة، وموّلت عمليات عسكرية ضخمة ولا تزال لأجل السيطرة على ميناء الحديدة الاستراتيجي.
كذلك، تظهر الإمارات اهتماماً خاصاً بوضع اليد على الجزر اليمنية. وهي تسعى من دون كلل لإدخال تعديلات جوهرية هدفها نسف المعالم والمظاهر اليمنية في جزيرة سقطرى، والعمل على استبدالها بآليات عمل وبنية تحتية كالمعمول بها في الإمارات، وقدمت مغريات لمواطني الجزيرة لأجل إعلان الرغبة في الانضمام إلى دولة الإمارات. كما عملت الإمارات على فرض سيطرتها على جزيرة ميون الواقعة في قلب باب المندب، بعد أن طردت سكانها منها مقابل مبالغ مالية.


القلق من مسقط
أحد أسباب التوتر الإماراتي الدائم من عناصر الأزمة اليمنية، هو الدور الذي تلعبه سلطنة عمان. حيث لا توجد أي علاقات جدية بين أبوظبي ومسقط، بل على العكس، تعمل أبوظبي بصورة دائمة على خلق مشاكل داخل السلطنة، وهي موّلت نشاطاً معارضاً لحكم السلطان قابوس، وسبق أن اعتقلت السلطات الأمنية العمانية خلايا تجسّس تعمل لصالح الإمارات. وفي كل مرة يرتفع منسوب الحديث عن خلافة قابوس، تسارع الإمارات إلى تعزيز تواصلها مع بعض الشخصيات العمانية بقصد استمالتهم. وهي تعد بإنشاء مشاريع واستثمارات داخل عمان إن ضمنت انتقالها إلى جانبها.
ويعاني أبناء زايد من عقدة نقص تاريخية إزاء حكام السلطنة، خصوصاً أن قابوس يتصرف دوماً على أن الإمارات هي جزء تابع لسلطنته. ولذلك، لم يتعامل يوماً باحترام مع أبناء زايد، وهو ما ترك ندوباً شخصية في العلاقات الثنائية. وما زاد في التوتر، قدرة مسقط على نسج علاقات متوازنة مع جميع دول الجوار، خصوصاً قدرتها على إدارة علاقة خاصة مع إيران رغم كل الهجمة العالمية على إيران. كذلك تحوّل مسقط إلى مركز للاتصالات بشأن العلاقات الخليجية – الإيرانية، إضافة إلى كون الجميع يتصرف اليوم على أن مسقط هي العاصمة الوحيدة المؤهلة لإدارة أي حوار يهدف إلى إنهاء الأزمة اليمنية.
كذلك حاولت الإمارات من خلال توسيع نفوذها في المحافظات اليمنية الشرقية إلى خلق بؤر توتر في وجه مسقط، خصوصاً من خلال مجموعات سلفية تكفيرية تقود حملة تكفير ضد عمان لكونها تدين بمذاهب تعتبرها المجموعات السلفية مذاهب للكفار، من الشيعة إلى الأباضية إلى بعض الإسماعيليين.
واليوم، تحاول الإمارات مع السعودية، وحتى مع البريطانيين، تقليص دور عمان، وهي تخشى أن تكون مسقط البوابة الإلزامية لأي حوار حاسم مع إيران أو مع حركة «أنصار الله» التي منحتها سلطات مسقط حق الإقامة والتحرك السياسي.