عشية اجتماع وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في «مجموعة العشرين» في الرياض، وتزامناً مع زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى السعودية والتي طغت عليها المواقف التصعيدية، أوصلت قيادة صنعاء رسالة «توازن الردع الثالثة»، باستهدافها مواقع حيوية في محافظة ينبع السعودية على البحر الأحمر. رسالةٌ، وإن جاءت ردّاً على المجزرة التي أودت بحياة 40 مدنياً معظمهم نساء وأطفال في مديرية المصلوب بالجوف (15 شباط/ فبراير الجاري) والتي ارتكبها «التحالف» انتقاماً لإسقاط الجيش اليمني واللجان الشعبية طائرة «تورنيدو» تابعة له، إلا أنها في سياقها الأعمّ تأتي كتحذير للرياض وواشنطن من أن سياسة «شراء الوقت» لا يمكن أن تستمرّ إلى ما لا نهاية، ومحاولة لإفهامهما بأن الاعتقاد بقدرتهما على تحييد «أنصار الله» بالمماطلة والتسويف لا يعدو كونه وهماً.وفي عملية هي الأولى من نوعها منذ دخول المبادرة التي أعلنها رئيس «المجلس السياسي الأعلى» في صنعاء، مهدي المشاط، في الـ20 من أيلول الماضي، والتي اقترحت وقف استهداف السعودية بالطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية مقابل وقف غارات طيران «التحالف» على الأراضي اليمنية، نفذت قوة الصواريخ وسلاح الجوّ المسيّر في الجيش اليمني عملية نوعية ضدّ ثمانية أهداف في عمق المدينة الصناعية السعودية في ينبع. ووفقاً لمصادر عسكرية في صنعاء تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن من بين تلك الأهداف «محطة تصدير الزيت، ومصفاة أرامكو التي تنتج قرابة 2.5 مليون برميل نفط يومياً، ومصنع الغاز الطبيعي، وميناء ينبع القادر على تصدير 3 ملايين برميل نفط يومياً، وأيضاً تصدير مشتقات النفط والبتروكيماويات». وقالت المصادر إن «الأضرار كبيرة وفادحة، ولكن الجانب السعودي كعادته يرفض الاعتراف»، لافتاً إلى أن «استهداف منشآت على بعد قرابة 1000 كيلومتر من الحدود اليمنية يُعدّ رسالة واضحة على السعودية أن تفهمهما جيّداً، فما بعد ينبع سيكون أشدّ إيلاماً للنظام السعودي». من جهته، كشف المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية، العميد يحيى سريع، أن العملية نُفّذت باستخدام 12 طائرة مسيّرة من طراز «صماد 3»، وصاروخين مجنّحَين من نوع «قدس»، وصاروخ باليستي بعيد المدى من طراز «ذو الفقار»، لافتاً إلى أن الضربة جاءت «في إطار الردّ الطبيعي والمشروعِ على جرائم العدوان»، متوعّداً النظام السعودي بـ«ضربات موجعة ومؤلمة إذا استمرّ في عدوانه وحصاره». وفي الاتجاه نفسه، أكد الناطق باسم «أنصار الله»، رئيس وفدها التفاوضي محمد عبد السلام، أن «استهداف عمق مملكة العدوان يأتي في إطار الردّ الطبيعي والمشروع»، جازماً أن «شعبنا اليمني لن يتخلّى عن حق الردّ، ولن يسمح للعدو بأن يستبيح دمه من دون تدفيعه الثمن».
استُخدمت في العملية 12 طائرة مسيّرة وثلاثة صواريخ


في المقابل، اكتفى المتحدث باسم «التحالف»، تركي المالكي، بالقول إن «قوات الدفاع الجوي الملكي السعودي اعترضت صواريخ باليستية أطلقتها الميليشيا الحوثية الإرهابية المدعومة من إيران باتجاه مدن سعودية»، وفق ما نقلت عنه وكالة الأنباء الرسمية. وفيما أغارت طائرات «التحالف»، في أعقاب العملية، على مديريتَي نهم في صنعاء ومجزر في مأرب فضلاً عن قرى حدودية في محافظة صعدة، أجبرت السلطات السعودية عشرات الناشطين على حذف مشاهد الانفجارات في ينبع (والتي استمرّت لأكثر من نصف ساعة) مِن على حساباتهم، مُتوعّدة مَن يبقيها منهم بالعقوبات. وتأتي عملية ينبع لتبطل حسابات السعودية التي راهنت على إمكانية استغلال مبادرة المشاط، من أجل إرساء هدنة موقّتة تخوّلها تمرير استحقاقات داهمة على المستويين الداخلي والخارجي. حساباتٌ لمسها مفاوضو «أنصار الله» بوضوح أثناء المفاوضات التي جرت في خلال الأشهر الماضية على أكثر من مستوى وفي غير مكان، حيث وجدوا أن الرياض تحاول انتزاع تهدئة مجانية، وبسقف زمني مفتوح، من دون إبداء استعداد لأيّ خطوة جدّية من شأنها التمهيد لوقف العدوان ورفع الحصار والانخراط في مفاوضات سياسية وأمنية وعلنية. ولعلّ هذا هو ما عناه عضو وفد صنعاء التفاوضي، عبد الملك العجري، بقوله أمس إن «دول العدوان تثبت يوماً بعد آخر أنها غير قادرة على التعافي من تقديراتها الخاطئة»، وإنها «تخطئ مرة أخرى في النظر إلى مبادراتنا الإيجابية على أنها مجرد فرصة للدخول في تلهية تكتيكية... وترتيب أوضاعها الداخلية واستكمال الحصار».
وعلى مرّ الأشهر التي أعقبت إعلان مبادرة «المجلس السياسي الأعلى»، والتي جاءت على إثر عملية «توازن الردع الثانية» ضدّ منشأتَي «أرامكو» في بقيق وخريص شرقي السعودية (أدّت إلى تعطّل نصف الإنتاج السعودي من النفط)، لم ترسل المملكة أيّ إشارة إلى نيّتها التوطئة لإنهاء الحرب. إذ كان جلّ ما أقدمت عليه خطوتين يتيمتين: تمثّلت أولاهما في الموافقة على تسليم 200 مقاتل من «أنصار الله» مقابل إطلاق الأخيرة سراح عدد من الجنود السعوديين، ومع ذلك نكثت الرياض بعهدها ولم تطلق سوى 130 أسيراً يمنياً. أما الخطوة الثانية فهي قبول فتح جسر جوي طبّي لنقل المرضى من صنعاء إلى عمّان والقاهرة، لكن لم تُنفّذ من هذا الجسر سوى رحلة واحدة فقط في بداية الشهر الجاري، قبل أن تعلن «منظمة الصحة العالمية» تعثّر انطلاق الرحلة الثانية لأسباب وصفتها بـ«الفنية»، فيما هي في الحقيقة أسباب سياسية مرتبطة بإرادة السعودية إبقاء اليمن تحت الحصار الكامل.
وتمثل عملية ينبع قفزة نوعية إضافية في مسار «عام الحسم» (العام الخامس من العدوان) الذي انتقلت فيه «أنصار الله» من وضعية الدفاع البحت إلى وضعية الهجوم التدريجي، بدءاً من التقدّم الملحوظ في محافظتَي البيضاء والضالع، مروراً بالقضاء على التمرّد في منطقة الحجور في محافظة حجة، وصولاً إلى عملية «نصر من الله» في وادي آل جبارة في كتاف بصعدة، وليس انتهاءً بعملية «البيان المرصوص» في فرضة نهم ومديريات في الجوف ومأرب. وكان العميد سريع، أعلن، أواخر العام الماضي، عن بنك أهداف جديدة يشمل 6 مواقع «بالغة الأهمية» في السعودية، و3 مواقع في الإمارات، مُتوعّداً بـ«توسيع الأهداف لتشمل مراكز حيوية وحسّاسة على طول وعرض جغرافيا دول العدوان».