إلى جانب المعركة العسكرية التي تقودها قوات صنعاء في مأرب، ثمّة معركة لا تقلّ أهمية، هي معركة الوعي، حيث تَستخدم السعودية أسلحتها المُفضَّلة في التحريض المذهبي واللعب على التباينات المناطقية. وهو أسلوب دائماً ما تلجأ إليه عند الفشل الميداني، وتُكرّره اليوم في مأرب، مستحضرةً شعارات من قبيل «الدفاع عن مكة المكرمة وصحابة الرسول»، فضلاً عن الإغراءات والحوافز المادية. وعليه، لا يبدو مستغرباً دخول «داعش» على خطّ القتال إلى جانب المملكة في مأرب، فضلاً عن أنه ليس من قبيل الصدفة أن يَتّخذ «القاعدة» من المحافظة منطلقاً له إلى بقية المحافظات.تستنفر السعودية أجهزتها المختلفة لتحريض القبائل على قتال الجيش و»اللجان الشعبية»، ويُسخِّر الأمراء وكبار الضباط السعوديين علاقاتهم التاريخية مع زعماء القبائل في الاتجاه نفسه، غير مراعين في ذلك خصوصية بعض الزعماء واختيارهم الوقوف على الحياد، مُهدّدين إيّاهم بقصف بيوتهم إن لم يمتثلوا لأوامرهم. وفي هذا الإطار، اعترفت وسائل الإعلام التابعة لما يُسمّى «الشرعية» بأن الطائرات السعودية أغارت في هذه المعركة على العديد من المجاميع المسلّحة أثناء انسحابها من الميدان، مُبرّرة ذلك بـ»الخطأ».
وليس الاهتمام السعودي بمحافظة مأرب مستجدّاً، بل هو متقادم بدعاوى تتعلّق بـ»الأمن القومي»، إذ حرصت المملكة، منذ بداية السبعينيات، على ترسيخ نفوذها السياسي في المحافظة عبر استضافة عشرات «المأربيين» لمتابعة الدراسة الدينية في المملكة، ومنحت زعماء القبائل العديد من الامتيازات، ولا سيّما قبيلتَي عبيدة ومراد، اللتين سعت الأسرة المالكة في السعودية إلى بناء علاقات شخصية مع زعمائهما. كذلك، ليست المرّة الأولى التي تُفعّل فيها الرياض التحريض المذهبي في وجه خصومها، إذ كلّما أرادت ابتزاز صنعاء، أو قرّرت انتزاع مكاسب على حساب اليمن، عمدت إلى تفعيل هذا السلاح، مُستغلّةً التعقيدات التاريخية للقبائل مع أيّ سلطة مركزية في صنعاء. كما حصل في اتفاقية ترسيم الحدود عام 2000، حين حرّضت القبائل على الإخلال بأمن الثروة النفطية وتدمير الخطوط الناقلة للكهرباء إلى صنعاء وبقية المحافظات.
تستنفر السعودية أجهزتها المختلفة لتحريض القبائل على قتال الجيش و«اللجان الشعبية»


على الضفّة اليمنية، اتخذت معركة مأرب أبعاداً متعدّدة. فإلى الجانب العسكري، يشارك العديد من الجهات: السياسية (أعضاء في حكومة الإنقاذ وآخرون من المجلس السياسي لأنصار الله)، والمدنية (لجان المصالحة ومجالس القبائل)، والأمنية (هيئة الاستخبارات والاستخبارات العسكرية)، ووزارة الداخلية بأقسامها كافة. وتشارك السلطات الدستورية الثلاث (المجلس السياسي الأعلى، وحكومة الإنقاذ، والبرلمان) في المعركة من خلال ضبط إيقاعها، والمساهمة في تركيز الخطاب الإعلامي والسياسي، سواء الداخلي أو الخارجي، على اعتبار المواجهات الحالية جزءاً من معركة التحرير الوطني، مع رفض الانجرار إلى الخطاب المذهبي. ووجّهت قيادات تلك السلطات بتفعيل جميع قنوات التواصل مع زعماء القبائل، وفتح باب العودة إلى صنعاء. وكنتيجة لذلك، استقبلت العاصمة العديد من الوفود القبلية من مأرب، بعدما نجحت قيادة صنعاء في استمالة العديد من بطون القبائل هناك، وتشكيل ثلاثة ألوية عسكرية من أبنائها. وفي هذا السياق، كشفت وسائل إعلام تابعة للتحالف السعودي - الإماراتي أن مسؤولين من صنعاء أجروا اتصالات مع المئات من الضباط وكبار المسؤولين في قوات هادي، أثمرت انشقاقات في صفوف الأخيرة. وعُلم، من مصادر مطّلعة، أن كتيبة من «اللواء 117 - مشاة» استسلمت بكامل ضباطها وجنودها وعتادها العسكري، في وقت متأخر من مساء الجمعة الماضي. كما تتزايد التوتّرات بين «التحالف» وبعض القبائل على خلفية فرض التجنيد الإجباري على أبنائها الذين يرفضون الزجّ بهم في معارك السعودية الخاسرة. وفي خضمّ التطوّرات المشار إليها، بدا لافتاً ما أعلنه نائب وزير الخارجية في حكومة الإنقاذ، حسين العزي، بلغة الواثقين، من أن «سلسلة من المفاجآت ستحدث داخل معسكرات المرتزقة، وفي عقر دارهم، من ثوّار كرام يتطلّعون إلى خدمة وطنهم وشعبهم، وهي لا شك لحظة انتظروها وانتظرها المستضعفون بشوق كبير، وها هي تقترب». والجدير ذكره، هنا، أنه قُتل في المعركة الدائرة حالياً عدد كبير من كبّار الضباط والمسؤولين (يُقدّر عددهم بـ36)، بينهم قادة ألوية وكتائب ومسؤولو عمليات تابعون لقوات هادي، الأمر الذي عزّز الشكوك في ما إذا كانوا لقوا مصرعهم من جرّاء الاختراق الأمني من قِبَل قوات صنعاء.
طوال فترة الحرب، كان اليمن وجهاً لوجه إمبراطورية إعلامية ضخمة تابعة لدول العدوان، تمتلك الوسائل التقنية والتكنولوجية المتطوّرة التي تخاطب بها جمهورها، وجمهور خصومها، فضلاً عن الفئة المتردّدة أو المحايدة. وهو ما تطلّب من صنعاء اليقظة الدائمة إزاء الحرب النفسية والتحريض المذهبي والتوهين وضرب الروح المعنوية، فضلاً عن استغلال الفضاء التكنولوجي والشبكات الاجتماعية في معركة الوعي هذه. ولربّما تَمثّل التحدّي الأكبر الذي واجهته «أنصار الله»، على هذا المستوى، في الانقسام الداخلي بينها وبين حزب «المؤتمر الشعبي العام» بزعامة علي عبد الله صالح، إذ سمح التردُّد والتشكيك والتواصل الخلفي للأخير مع دول العدوان، للآلة الإعلامية المضادّة، بالنفاذ إلى قطاعات شعبية استطاعت التأثير فيها، والدفع بالكثير من أبنائها إلى الالتحاق بـ»التحالف». إلا أنه بعد نجاح صنعاء في القضاء على ما سمّته «الفتنة» أواخر عام 2017، وبدل الانتقام والقصاص، أو التشهير الإعلامي والاجتماعي، نشطت قياداتها في استقبال العائدين وهم يحملون أسلحتهم، تحت شعار «أهلاً بكم في بلدكم على العين والرأس». وهو ما أدّى لاحقاً إلى تزايد حالات الانشقاق من صفوف «التحالف»، إلى درجة قَدّر معها رئيس هيئة الاستخبارات، أبو علي الحاكم، أعداد العائدين بـ»عشرين ألفاً بين ضابط وجندي».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا