عثرت أجهزة الأمن التابعة للحكومة المقالة التي تديرها حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، أمس، على جثة المتضامن والصحافي الإيطالي فيتوريو أريغوني، في منزل مهجور، شمال مدينة غزة، بعد ساعات قليلة من إعلان جماعة سلفية متشددة خطفه للمطالبة بإطلاق معتقلين سلفيين في القطاع.
وأفادت وزارة الداخلية التابعة لحماس بأن أجهزة الأمن اعتقلت عنصرين من أفراد المجموعة التي نفذت جريمة «الخطف والقتل»، وأنه يجري البحث عن آخرين. وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية، إيهاب الغصين، إن اعتقال أحد أفراد الجماعة واستجوابه أدى إلى اكتشاف مكان أريغوني.
وأضاف الغصين، في مؤتمر صحافي أمس، أن قوات الأمن تحركت بسرعة وبحكمة إلى المكان، ولكنها وجدته مقتولاً «بطريقة بشعة»، حسبما ذكر الطبيب الشرعي. وتابع الغصين أن الخاطفين استأجروا المنزل الذي عثر فيه على جثة أريغوني، واستخدموا سيارة شخص آخر في محاولة لإخفاء هوياتهم، معرباً عن اعتقاده أنهم كانوا يعتزمون من البداية قتل ضحيتهم، لأن الجريمة حدثت بعد فترة قصيرة من اختطافه.
وقال الغصين «إن عملية القتل يمكن أن تعرّض المزيد من بعثات التضامن للخطر، مثل الأساطيل التي حاولت كسر الحصار البحري الإسرائيلي على غزة». وأكد أن الجماعة التي قتلت أريغوني خدمت نيّات إسرائيل «بمحاولة إرهاب المتضامنين الذين يدعمون الشعب الفلسطيني في غزة». وفي اعتصام نظّمته حركة «حماس» تنديداً بالجريمة، شدد عضو مكتبها السياسي محمود الزهار على أن «هذه الجريمة لن تمر مروراً عابراً، وستجري ملاحقة كل من شارك في ارتكابها، وسيكون التعامل معهم بحجم الجريمة». وشكّك في عقيدة هؤلاء السلفيين، قائلاً «نحن الذين نمثّل السلفية والوسطية في العالم، ولكن من يدّعي من هؤلاء أنه في السلفية في غزة، فهو لا يفهم من السلفية أيّ منهج».
وكانت جماعة سلفية جهادية متحالفة مع تنظيم «القاعدة» تطلق على نفسها اسم «جماعة الصحابي محمد بن مسلمة» قد هددت، أول من أمس، بإعدام أريغوني بعد 30 ساعة، ما لم يطلق سراح جميع معتقلي الجماعات السلفية، وعلى رأسهم الشيخ هشام السعيدني، إلا أنها نفذت تهديدها بعد أقل من خمس ساعات.
وتتهم جماعة «التوحيد والجهاد» حكومة «حماس» باعتقال أميرها السعيدني، الملقّب بأبو الوليد المقدسي، منذ نحو شهر، إلا أن الحكومة لم تصدر أي تعليق على الاتهام. ونفت هذه الجماعة، في بيان صحافي أمس، «أي علاقة لها بقتل الصحافي الإيطالي»، إلا أنها أكدت في الوقت ذاته أن هذه الحادثة هي «نتاج طبيعي للسياسة القمعية التي تنتهجها حماس وحكومتها ضد السلفيين، ولطالما حذرنا حماس من التمادي في الظلم ضد التيار السلفي إرضاءً للمجتمع الدولي».
وانتقد البيان «حماس» موضحاً أنه «في الوقت الذي ينعم فيه نصارى القطاع بالأمن والأمان، ولا يحرمون حتى من الخمور، وفي الوقت الذي تفتح فيه حماس ذراعيها لقتلة المجاهدين وأعوان اليهود من العلمانيين في الضفة الغربية، ما زالت حكومة حماس تواصل التضييق والملاحقة والتنكيل بكل من تثبت صلته بأي عمل جهادي سلفي». وحذرت هذه الجماعة حماس من «الاستمرار بسياسة العناد، وإلا فلتتحمل نتائج تكبّرها وتسلّطها، ولتتحمّل كامل المسؤولية عن تفلّت عقائل الصبر». وأكدت حقها في «إخراج أسرانا من السجون، ومن تحت سياط التعذيب، بكل وسيلة ممكنة»، مطالبة حكومة حماس بالإفراج عنهم «قبل فوات الأوان».
من جهته، دان الرئيس محمود عباس بشدة جريمة قتل أريغوني، ووصفها بـ«الجريمة البشعة والنكراء». كذلك دانت حركة الجهاد الإسلامي الجريمة، وقالت إن «هذه الجريمة البشعة مساس خطير بشعبنا». ووصفت لجان المقاومة الشعبية الجريمة بـ«العمل الجبان»، مطالبة بمحاسبة القتلة، فيما عدّتها الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين «إساءة خطيرة لنضال الشعب الفلسطيني وكفاحه».
وفي روما، قالت صديقة أريغوني، ماريا ايلينا ديليا، لوكالة «فرانس برس»، إن عائلته والمقرّبين منه «مصدومون»، وأعلنت تجمعات لتأبينه في إيطاليا. وأشارت إلى «تنظيم قراءة لمقاطع من كتابه في تورينو الليلة (أمس)».
وكانت وكالة «آكي» الإيطالية للأنباء قد نقلت عن وزارة الخارجية في روما أن «وزارة الخارجية إذ تعرب عن صدمتها لعملية القتل الهمجي وعن خالص التعازي لعائلة مواطنها، فإنها تدين بأشد العبارات هذا الفعل العنيف الجبان وغير المبرر، من جانب متطرفين لا يهتمون بالحياة البشرية، والذي استهدف شخصاً بريئاً وجد نفسه في تلك المنطقة لمتابعة وضع الفلسطينيين في قطاع غزة عن كثب».
بدورها، أصدرت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كاثرين أشتون، بياناً قالت فيه: «أدين بشدة خطف المواطن الإيطالي فيتوريو أريغوني، العضو في حركة التضامن الدولية، أمس، وقتله بطريقة وحشية». وأضافت أن أريغوني يعمل على مساعدة الفلسطينيين في غزة منذ مدة طويلة، ما يجعل مقتله «مؤسفاً أكثر».
وكان أريغوني عضواً في حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني، وصل إلى غزة للمرة الأولى في 23 آب من عام 2008، في أول قافلة قوارب لكسر الحصار والتضامن مع الشعب الفلسطيني، وقرر البقاء في القطاع.
أصبح أريغوني وجهاً مألوفاً في غزة، وكان يرافق الصيادين لحمايتهم من اعتداءات زوارق الاحتلال، وكذلك المزارعين، حيث شاركهم في المسيرات المناهضة لما يسمّى المنطقة العازلة شمال غزة وشرقها، وكان يخرج للتضامن معهم في وجه قوات الاحتلال التي ما انفكّت تطلق عليهم النار في حقولهم.
وبرز دور أريغوني في الحرب الإسرائيلية على غزة نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009، حيث كان يرافق سيارات الإسعاف لإنقاذ المواطنين، وأصيب في إحدى الاعتداءات. كذلك برز دوره الإعلامي في كتابة قصص وتقارير من قلب المعاناة والحصار الإسرائيلي لغزة، ونشرها في الصحف ومواقع الإنترنت الأجنبية.
الناشط الإيطالي ترك بلاده وعائلته ووالده الذي يعاني من السرطان، وفضّل البقاء في غزة إلى جانب الشعب الفلسطيني يدافع عنه، ودفع حياته في سبيل اقتناعاته.

«حماس» والسلفيّون: تحالف... وخصام



العلاقة بين «حماس» والمجموعات السلفيّة في غزة مرّت بأكثر من منعطف. فإذا كانت حالياً على طريق المواجهة، إلا أنها لم تكن كذلك في السابق، ولا سيما أن معظم أفراد هذه المجموعات هم متخرّجو «مدرسة» الحركة الإسلاميّة
مثّلت جريمة قتل الناشط والصحافي الإيطالي فيتوريو أريغوني رداً عنيفاً من الجماعات السلفية المتشددة في غزة على محاولات «الترغيب والترهيب» من جانب حركة «حماس» لتصفية هذه الجماعات بالمواجهة الفكرية تارة، والعسكرية تارة أخرى.
هذه الجريمة ستعيد «نبش» العلاقة المتوترة بين «حماس»، التي تحكم قبضتها على قطاع غزة منذ حزيران 2007، والجماعات السلفية الجهادية، التي تخرّج الكثير من عناصرها من مدرسة «حماس»، ليصبحوا اليوم من ألد خصومها، لعدم سعيها إلى «تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية»، وفق ما يعتقدون.
ويعتقد مراقبون أن «حماس» ستأخذ الجريمة من منطلق التحدي لحكمها في غزة، وقد تلجأ إلى المواجهة العنيفة مع الجماعات السلفية المتشددة، بعد «فشل» برامج التوعية والإصلاح الفكري لعناصر هذه الجماعات.
وفي تطور لافت يؤشر إلى مواجهة مرتقبة بين حركة «حماس» والجماعات السلفية الجهادية، وجّه وزير الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة «حماس» صالح الرقب، دعوة شبه صريحة إلى الحكومة لـ«إعدام» قتلة أريغوني، بمطالبته «بإقامة الحكم الشرعي في من يقتل المسلمين، وغير المسلمين دون وجه حق».
لكن الجماعات السلفية الجهادية في غزة لا تشاطر حركة «حماس» رؤيتها الدينية، وتأخذ عليها فكرها الوسطي، وتقاعسها عن تطبيق الشريعة، ومهادنة الكفار. وعبّر مراقبون عن قلقهم من التسجيل المصور الذي ظهر من خلاله أريغوني معصوب العينين والدماء تنزف من وجهه، وما رافق التسجيل من «مفردات متطرفة»، شبيهة بما تستخدمه الجماعات السلفية في الخارج، وتأثير ذلك في حركة التضامن الدولي مع غزة.
ويبدو أن الجماعات السلفية الجهادية لم تنسَ «ثأرها» عند حركة «حماس»، منذ الضربة القاسية التي وجهتها الحركة إلى جماعة «جند أنصار الله»، وهي واحدة من بين نحو ست جماعات لا يربطها تنظيم واحد على النحو المعهود، لكنها متشابهة فكرياً وتتماهى مع فكر تنظيم القاعدة الدولي.
وتلقت الجماعات السلفية ضربة قاسية في آب 2009، عندما أطاحت حركة «حماس» «الإمارة الإسلامية في أكناف بيت المقدس»، التي أعلنتها جماعة «جند أنصار الله»، وأطاحت رأس أميرها المتشدد عبد اللطيف موسى، ونحو 20 من أنصاره.
كانت تلك آخر المواجهات المسلحة بين حركة «حماس» وجماعة سلفية جهادية في غزة، غير أن الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة «حماس» لم تتوقف منذ ذلك الحين عن تنفيذ عمليات اعتقالات عدة في أوساط السلفيين، لأسباب داخلية، وأخرى تتعلق بخرق ما تسميه «حماس» «التوافق الوطني»، وإطلاق صواريخ على بلدات إسرائيلية.
وتتهم الجماعات السلفية أجهزة الأمن في غزة باعتقال عناصر سلفية متهمة بإطلاق صواريخ محلية الصنع على بلدات «إسرائيلية»، وأخرى متهمة بتفجيرات استهدفت مقاهي إنترنت وأماكن ترفيه شبابية وصالونات تجميل نسائية بدعوى أنها تمارس الرذيلة.
وليس هناك إحصاء دقيق لأعداد أنصار الجماعات السلفية المتشددة في غزة، إلا أن الظاهرة ملموسة، وتبدو واضحة للعيان. ويستدل سكان غزة على الكثيرين من أتباع الجماعات السلفية بمظهرهم الخارجي، إذ يطلقون لحاهم وشعورهم، ويرتدون «طاقية» سوداء على رؤوسهم، وكثير منهم يرتدي الزي الباكستاني، وهو عبارة عن بنطال فضفاض فوقه جلابية قصيرة تصل إلى أسفل الركبتين بقليل.
وقالت مصادر متطابقة إن ظهور ظاهرة الجماعات السلفية الجهادية وتناميها ارتبطا بقرار حركة «حماس» خوض الانتخابات التشريعية عام 2006، ورضاها الحكم بالقوانين الوضعية. وأضافت المصادر إن الظاهرة أخذت في التوسع والانتشار عقب سيطرة «حماس» على قطاع غزة في حزيران 2007 بعد إطاحتها غريمتها حركة «فتح» ذات التوجه المدني، إذ تعرضت الحركة الإسلامية لاتهامات من جماعات سلفية بالتقاعس عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
ووفقاً لتقرير صدر عن مركز أبحاث مجموعة الأزمات الدولية في 29 آذار الماضي، فإن «نسبة كبيرة من السلفيين في غزة هم أعضاء سابقون في حركة حماس، خرجوا منها احتجاجاً على مشاركتها في الانتخابات، وعدم تطبيقها الشريعة، وموافقتها على وقف إطلاق النار مع إسرائيل».
وفيما يدعو السلفيون الى تطبيق الشريعة الإسلامية في قطاع غزة كمقدمة لإقامة إمارة إسلامية، يرون في المقابل أن حماس «تحارب شرع الله». وقال سلفيون إن «حماس» كان بمقدورها ـــــ إن أرادت ـــــ أن تعلن قيام إمارة إسلامية في غزة بعد طرد قوات «فتح» العلمانية، وإزالة المعوقات من طريقها، لكنها ارتضت الحكم بما لم ينزل الله»
ورفض النائب عن حركة «حماس» يحيى موسى هذه الاتهامات، مبدياً استخفافاً كبيراً بعناصر هذه الجماعات التي وصفها بـ «الجهل وعدم الإلمام بمقاصد الشريعة ومتطلبات العصر». وقال إنه لا يشعر بالقلق الكبير من تأثير هذه الجماعات رغم خطورة جريمة قتل المتضامن الإيطالي، مضيفاً إن «التطرف ليس سمة فلسطينية، والجماعات السلفية لا تمثّل ظاهرة».
وكثيراً ما تواجه حركة «حماس» اتهامات بالمساعدة على ظهور الجماعات السلفية المتشددة، بالأفكار التي بثتها في المجتمع لسنوات طويلة، وبعناصر تشرّبوا هذه الأفكار، وانقلبوا عليها والتحقوا بالسلفيين، بحثاً عن مزيد من التشدد والتطرف. غير أن موسى أبدى استغرابه من هذه الاتهامات، واصفاً حركة «حماس» بأنها «مدرسة الفكر الوسطي المعتدل».