strong>بيسان طيحين تتابع جلال خوري خلال محاضراته الجامعية، يلحّ عليك سؤال عن عمره، وخصوصاً مع تلك الحيويّة والنشاط اللذين يتمتع بهما، والحماسة المفرطة التي يبديها في كل حديث، في كل تفصيل. يحبّ الشرق الأقصى، يحب المقاومة، يحب المسرح، والحبّ عنده عشق وشغف... كأنه يغرف الحياة كلها. قامته الطويلة وحركته تكذّبان أيضاً عمره. وحين تسأله عن ذلك، يجيب بأنّه أحياناً يفاجئ نفسه وهو يردّد «طوّل بالك شوي، شو هالحماس... فأضحك على نفسي».
قفزات ونقلات كثيرة عرفها في حياته، تعتقد بأنّ السؤال الأول يكون عن خياراته اليسارية، فما الذي جاء بابن الجميزة إلى اليسار؟ يجبيك «شربته مع الحليب، أبي انتمى إلى الشيوعية في الأربعينيات مع انتصار الجيش الأحمر في ستالينغراد». والده صاحب مشغل الخياطة الأنيق الذي كان يتعامل مع «دار ديور»، سافر إلى فرنسا حين بلغ الابن 15 عاماً، وعاد الخياط ومعه كتب ماركس وأنغلز، يقرأها مساءً لأولاده ويفسّرها ل
لاحقاً سينتمي جلال إلى تنظيم شيوعي في منطقة حمانا «كان ذلك خطراً أيام الثنائي شمعون ــــ شارل مالك. وباستثناء تلك الفترة، لم أنتمِ إلى تنظيم لكنّي فكرياً كنت ماركسياً». في عام 1962، سافر خوري إلى هلسنكي بصحبة جورج حاوي وكريم مروة وآخرين لحضور «مهرجان الشباب العالمي». وفي العام نفسه، شارك في أول عمل مسرحي له، فقدّم مع شريف خزندار وكريستيان غازي «في انتظار غودو».
لكنّ المسرح لم يكن خيار خوري المهني الأول، على رغم أنه يذكر عن تلك الفترة: «كنت أحب كل شيء شكلي في الفن، بيكيت في المسرح، التجريد في الرسم...»، عمل مع أبيه في مشغل الخياطة، وبدأ دراسة الآداب، لكنّه لم يكملها: مرض والده جعله يترك الجامعة ليدير المشغل الذي كان يضمّ 40 عاملاً. علاقته بالكتابة لم تنقطع في تلك الفترة. بدأ العمل الصحافي عندما بلغ 16 عاماً وكان محرّراً رياضياً في مجلّة Sport magazine «هناك تعلمت أصول بنية المقال، وهي نفسها بنية المسرحية والسيناريو». وفي عام 1956، سيركز اهتمامه على الآداب من خلال حركة النقّاد الشباب «وقد خصّصت لنا جريدة Le Soir صفحة مستقلة أسبوعية كنا نكتب فيها، كنت أعمل في النقد الفني، وصرت الناقد في أول ملحق ثقافي في الصحافة اللبنانية أي ملحق صحيفة L Orient Le Jour».
من الصحافة انتقل إلى المسرح، زميله أندريه بركوف (مدير France Soir) أعلمه بأنّه سيجري تأسيس فرقة مسرحية في L école des lettres في بيروت، وحين سُئل خوري ما الذي يريد تقديمه على الخشبة رد «راسين وكورناي طلعوا من مناخيري، فاقترحتُ غودو».
أعمال المسرحي والشاعر الألماني بريشت كان لها تأثير كبير على خوري ومسرحيين كثر في العالم العربي. يروي خوري أنّ المهندس أنطوان ثابت، الحائز جائزة «لينين»، كان صديقاً لوالده «وكان صديقاً لبريشت فأهداني أعماله الكاملة. عندما اكتشفته، ذُهلت وبقيت عشرة أعوام من أتباعه». وأول عمل قدّمه من نصوص بريشت كان «أحلام سيمون ماشار»، وبعد أحد العروض، تلقى دعوةً من مندوب الجمهورية الديموقراطية الألمانية لزيارة بلاده.
لدى عودته من ألمانيا، تلقّى خوري عرضاً من المسرحي أنطوان ملتقى ليُقدم عملاً في مسرحه في الأشرفية، «فقدمتُ «صعود أرتورو أوّي» باللغة العربية وكانت “بداية مذهلة لروجيه عساف».
جلال خوري سيكون واحداً ممن أسّسوا حركة مسرحية مزدهرة ونقدية في الستينيات، هو يردّد أنّه أول مَن قدّم المسرح السياسي، ومن أعماله الشهيرة في تلك الفترة «جحا في القرى الأمامية» التي عرفت نجاحاً جماهيراً مذهلاً. احترافه «النهائي» جرى في أواخر الستينيات «كنت عند جورج نقاش، وحين سألني عن مهنتي، قلت إنّي صحافي فأجابني أنّ الصحافة تعيش (آنذاك) عصرها الذهبي، أي إنّها ستنحسر، روح دوِّر على المسرح».
حصل خوري على منحة إلى فرنسا فدرس عام 1967 ــــ 1968 المسرح في Théatre des Nations، «ولما رجعت إلى لبنان عاودت الاتصال بأنطوان ملتقى، وصرت محترفاً من حيث لا أدري»، ومن أعماله في تلك الفترة «الرفيق سجعان» التي عُرضت في لبنان وفي ألمانيا عام 1979.
من مسيرته المسرحيّة، سيحمل الكثير من النجاحات، لكنّه أيضاً يذكر جروحاً سبّبها له الوسط الفني، يقول إنّ بعض النجاحات كانت تجرّ له الشائعات، وأكثر ما يؤلمه «شائعة قيل فيها إنّي عملت مستشاراً لبشير الجميل، وذهبت إلى إسرائيل»، فيما هو يحكي عن أيام صعبة عاشها لأنّه اختار أن يكون يسارياً ومناصراً ومدافعاً عن القضية الفلسطينية في بلد مزّقته حروب الطوائف.
اليوم جلال خوري مشغول بالشرق الأقصى، ومن المواد التي يدرّسها في الجامعة اليسوعية مادة عن المسارح في هذا الشرق. وإن كان المرء من المحظوظين بمعرفته وصداقته، ستمتلئ مكتباته بكتب وأفلام DVD وألبومات موسيقية من ذلك العالم الغني. هذا الاهتمام سيستوقفك، فما الذي جاء مرة أخرى بماركسي إلى معارف الصين واليابان والهند، يروي خوري أنّه ما زال يؤمن بأنّ «الماركسية هي أرقى ما أنتجه الغرب كفكر»، لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أنّه «خلال الحرب الأهلية اللبنانية، راحت علاقة اليسار بالفكر اليساري تتلاشى، ربما كان ذلك بسبب معايشتنا أحداثاً مأساوية ما جعلنا غير مبالين أمام الموت، وأنا صرت في لاوعيي قدرياً، واكتشفت من خلال ممارسة اليوغا ومعرفتها الخلفية الفكرية والمعرفية للحضارات الشرقية، وتحديداً الهندية».
في «رحلته نحو الشرق»، كان بحثه الأول عن أسباب فشل التجربة الاشتراكية في العالم، «ولما بدأ عنده التحوّل قطعت مع المسرح الغربي، وتحديداً مع المسرح السياسي الغربي، كان ذلك في التسعينيات، وحاولت اختبار طرق مختلفة قدمتها في مسرحية «رزق الله يا بيروت» التي تروي سيرة المسرح اللبناني منذ مارون النقاش حتى الحرب اللبنانية»، ويضيف إنّه ظل يستوحي من حيث الشكل من مسارح الشرق الأقصى. من الماركسيّة إلى الشرق الأقصى تبدو الرحلة غريبةً، «قد يعدّها البعض تقلّبات، ولكنني أرى الأمر تطوّراً طبيعياً، وخاصة أنّني أظل دائماً قريباً من الفكر الثوري».
ما الذي يشغل خوري حالياً؟ يتحدث عن صديق رحل «جوزيف أبي نادر، الذي بدأ حياته حاجباً ثم درس الرياضيّات، بعدها صار مهندساً في فرنسا، وقد أسّس معهد العلوم التطبيقية في لبنان».
يستعيد جلال خوري لقاءاته مع أبي نادر: «كان يقول لي تعالَ لنمارس رياضة المشي لنعيش كفاية ونشاهد انتصار الاشتراكية في العالم». لكنّ أبي نادر رحل حزيناً مع سقوط التجربة الاشتراكية، وخوري اليوم يمارس الرياضة ويهتم بصحته «كي أعيش ما فيه الكفاية لأشاهد انهيار الرأسمالية، ويبدو لي أنّ هذا الانهيار قد بدأ».


5 تواريخ

1934
الولادة في بيروت

1951
أول مقال كتبه في Sport magazine

1971
«جحا في القرى الأمامية»

1979
«الرفيق سجعان» في ألمانيا

2008
يحضّر لمسرحية «رحلة محتار إلى شرينغار» بالتعاون مع مسرحي لبناني معروف