بين الأفلام العربيّة التي انتجت خلال العام الماضي، هناك تجربة على حدة، غير قابلة للتصنيف، قائمة على الجرأة الجمالية والسياسية، من دون أي ادعاء زائد، تحمل بصمات امرأة حاضرة بقوّة في المشهد الثقافي والسياسي منذ ربع قرن: من سجون بلادها إلى جمهوريّة باريس الفاضلة، عملت على انجاح أفلام الآخرين، وبقينا ننتظر فيلمها. كان لا بدّ من مفترق طرق ــ شبح الخمسين، وتغير العالم ــ كي يخرج ذلك الفيلم إلى النور.
هالة العبد الله (1956) جاءتنا بشريط يختزن ذاكرة جيل أساسي في الثقافة السوريّة، حمل الأوهام الكبرى، وكلّفه ذلك ثمناً باهظاً ما زال يدفعه إلى اليوم، بين سجن وقبر ومنفى، بين احباط وضياع وصمت وجنون. لكنّ فيلمها “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” لا يرزح تحت عبء الايديولوجيا، ولا يقع في فخ الحنين. إنّه قصيدة سينمائية بالأبيض والأسود، ملأى بالنوارس والغربان، بالقصائد والأيقونات والدموع... وذكرى مذابح بعيدة. قصيدة بريختيّة، تأخذنا جمالياتها (في السرد والتصوير والتوليف) إلى عوالم الالماني جان ماري شتراوب.
قررت هالة أن تصنع فيلماً تضع فيه كل مشاريعها المؤجلة. تعاونت مع عمّار البيك (1972) الذي رافق بالكاميرا الفنان يوسف عبدلكي، رفيق دربها العائد إلى سورية ليعرض أعماله بعد ربع قرن من المنفى! إنّه فيلم عن العودة، عن مرور الزمن، عن أحلام السبعينات المهدورة، من خلال ثلاث صديقات بدد الزمن أحلامهن، وذكرى الشاعرة دعد حداد التي “حملت الزهور إلى قبرها”. يهيم طيفها على الفيلم، نكاد نلتقيها حول “تسكة” عرق عند الشاعر نزيه أبو عفش.
يتشكّل الفيلم أمامنا. تفتح هالة العبد الله كواليسها، تروي وتعلّق وتشركنا في تساؤلاتها، كما تشرك عمّار في مغامرتها (أوهام السبعينات الجميلة حول العمل الجماعي). إننا شركاء في الجرح الذي أنجب سينمائية فريدة. تلك الولادة المتأخرة، لا بأس إذا قابلناها باحتفاء متأخر.