جوزف سماحة عن جورج عبدالله و«قارع الطبلة»

في مدونتي اليوم، استضيف كاتباً استثنائياً، هو زميلنا ومعلمنا جوزف سماحة. مقالة جوزف هذه تتناول من بين ما تتناوله، قضية جورج ابراهيم عبدالله، لجهة شرح ما قام به محاميه جان بول مازورييه المدسوس من قبل المخابرات الفرنسية. ولتعميم الفائدة، ولإعطاء فكرة عن درجة تلاعب المخابرات الفرنسية بقضية جورج، والكلام موّجه للمؤمنين ببراءة «ماما فرنسا»، أعيد نشر المقالة، وقد كتبها جوزف في 30 آذار من العام 1987 ونشرت في مجلة «اليوم السابع»، وهي أسبوعية فلسطينية كانت تصدر في باريس، وكان لي شرف بدء العمل في الصحافة فيها الى جانب سماحة. بدون إطالة..المقالة.

الفتى الصغير قارع الطبلة
جوزف سماحة

سيدخل جون لوكاريه التاريخ بصفته حوّل القصة البوليسية إلى أدب. سيدخله، ربما، بصفته محلّلاً نفسياً يعطي لأبطاله كثافة شخصية تقطع مع تبسيط الخير والشر، الأسود والأبيض، وهو تبسيط يميل هذا النوع من الكتابة إلى الوقوع فيه. روايته الأخيرة «الجاسوس المحض»، أو «الجاسوس الخالص»، هي، بهذا المعنى، آية من آيات الأدب النفسي. غوصٌ في أعماق العميل المزدوج. تتطور القصة، لا عبر الأحداث، بل عبر الانكشاف التدريجي لأصول هذا الازدواج الذي وفّر لكتّاب كثيرين فرصة التبسّط في أمور عديدة تبدأ من النظام التعليمي البريطاني لتصل إلى الشذوذ الجنسي مروراً بنظام المحافظة الأخلاقية وآثاره المتفاوتة.   عندما حاول كاتب فرنسي أن يقدم، روائياً، قصة مشاهير العملاء المزدوجين في بريطانيا، كان يدرك، كما صرّح علناً، أنه يقوم بدراسة تطبيقية لنظريات لوكاريه. وهي نظريات تكتشف في المجتمع البريطاني إيّاه، وفي كيفية إفرازه للعميل، أو لرجل الاستخبارات، إمكانية الازدواج. يعرف لوكاريه موضوعه جيداً. فقد سبق له أن عمل في هذا الميدان قبل أن يقرر الكتابة عنه. ولعل كتابه «الفتاة الصغيرة قارعة الطبلة» دليل على عمق استيعابه لآلية عمل عالم الاستخبارات هذا. إنها قصة فتاة بريطانية مؤيّدة للحق الفلسطيني. يستدرجها الموساد الاسرائيلي إلى أن تقع في غرام أحد عملائه وذلك في محاولة لتوظيفها في خطة اغتيال احد أقطاب العمل الفدائي في الخارج. يقدم الإسرائيلي نفسه لها بصفته فلسطينياً. يعيش معها بهذه الصفة. يشرح لها قضيته وعدالتها، يحدّثها عن بلاده، يؤكد لها موقفها السياسي الأصلي. لكنه يقول لها، في مرحلة ما، انه إسرائيلي وإنه من الموساد. فلا تعود تعرف هل أحبّته أم أحبّت الفلسطيني فيه. تدخل في اللعبة وتقوم بمهمتها على أحسن وجه: تستدرج الفلسطيني لاغتياله كرمى لعيون الحبيب الملتبس. وتنجح في ذلك لتجد في هذا الانجاز ذروة الغرام بفلسطين متخذة شكلها المستعار، وذروة المأساة، وعندما تحاول في اللحظات الأخيرة أن تستدرك فعلتها تدرك أنها كانت، هي الأخرى، ضحية لعبة أكبر منها.   هذا الوضع، بالتباساته التي لا حدود لها، حاول جورج روي هيل، وهو مَن هو في عالم الإخراج السينمائي، أن يحوّله إلى فيلم ففشل. لا شيء يعوّض قدرة جون لوكاريه على اسم الشخصيات المعقدة، وعلى تجاوز الفخاخ الصعبة التي تخلقها له شخصياته والتعقيدات التي يخترعها لها. لا أحد غيره يستطيع أن يقدم تعايشاً مقنعاً بين جنوحين تعيشهما شخصية فصامية، تعايشاً يضع في سلّة المهملات الرمز الأكثر شهرة لهذه الوضعية: دكتور جيكل ومستر هايد. ففي هذه الوضعية يبدو الخط الفاصل ناتئاً، الخير للنهار والشرّ لليل. أما في حالة «الفتاة الصغيرة، قارعة الطبلة» فالانفصال هو إبن اللحظة وكل لحظة بعينها تجمع تناقضات صعبة الحصر. لم يكن يخطر في بال لوكاريه أن شخصية من هذا النوع يمكنها أن تكون موجودة في الواقع. ومن حقه، طبعاً، ألّا يخطر في باله شيء من هذا القبيل. لكن هذا الحق انتفى مع صدور كتاب «العميل الأسود، جاسوس في قضية عبد الله». الكتاب كناية عن حوار يمتد على حوالى ثلاثمئة صفحة أجراه صحافي من جريدة «ليبراسيون» الفرنسية مع المحامي جان بول مازورييه الذي تولّى الدفاع عن جورج ابراهيم عبد الله المتهم بتزعّم «الألوية الثورية اللبنانية». أثار الكتاب ضجة عند صدوره لأنه كشف أن المحامي المذكور كان عميلاً لأحد أجهزة الاستخبارات الفرنسية وقد أقدمت السلطات على إحراق 17 ألف نسخة منه كانت تتضمن ملاحق «سريّة للغاية». ثمّة مداخل عديدة للتعاطي مع هذا الكتاب ـ الحدث. يمكن القول، مثلاً، إنه يكشف واحدة من ثغرات الديمقراطية الفرنسية. وهذا صحيح. إذ من غير الجائز تحويل المحامي إلى جاسوس ضد موكّله. ويمكن القول، مثلاً، إنه يطرح أسئلة خطيرة حول خفّة عبد الله ورفاقه وإقدامهم على كشف معظم أسرارهم أمام رجل لا يعرفون عن ماضيه وعلاقاته شيئاً. كما أنه من الضروري الإشارة إلى أن الكتاب يؤكد أن ما يُعلم، في فرنسا وغيرها، عن القضايا ذات الصلة بما يسمّى «الإرهاب» أكبر بكثير، وأهمّ، ممّا يعلن. فمازورييه، والجهة التي تحرّكه، كانا يعرفان، بالتفصيل، كل تحركات عبد الله ورفاقه قبل اعتقال هذا الأخير في مدينة «ليون» الفرنسية. ويومها، بالطبع، لم تكن وسائل الإعلام على صلة بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد.   إدانة سلوك مازورييه والسلطات والأجهزة الفرنسية ضروري قطعاً، لكن، لا بد، وراء ذلك من التوقّف عند هذه الشخصية الروائية التي يجسّدها هذا المحامي والتي تذكّر، كثيراً، بشخصيات جون لوكاريه. محام شاب، شبه فاشل، كان يريد أن يكون طبيباً أو سائق سيارات سباق. وحيداً لأهله، عانى مشاكل مع عائلته، لا أفكار سياسية واضحة له، لا انتماء. وضعته الصدفة، وحدها، في خضَمَّ أحداث لم يكن يفقه منها شيئاً. إتصل عبد الله معتقداً، وهذا أيضاً فشل، بأنه سينجح في إنقاذ أرواح بريئة من الموت. جعلت منه هشاشته، وتردّده، وميله للشرب، وإحساسه أنه يعيش مغامرة استثنائية شخصاً عصابياً يؤدي دوراً في مسرحية لا يمسك خيوطها ولا يعرف إلى أين تقوده. لم يفهم شيئاً من الخطاب «الثوري» ولا من «السلوك البوليسي»، فارتاب به الجميع لكنه ظل يعمل بقوة الاندفاع متنقّلاً بين بلغراد وليون ودمشق وغيرها من العواصم والمدن. رسول «الإرهابيين» في ما بينهم وأذن المخابرات وعينها عليهم. يسجل من دون أن يفهم ولا يكلّف أحد نفسه عناء إفهامه ماذا يجري. منذ أن وضع رجله في الفخ دخل في دوّامة لا مخرج منها. لم يكن أمامه سوى الهرب المستمر إلى الأمام، وهو هربٌ أكل من تماسكه وخرّب عليه حياته لينتهي كل شيء يفشل مدوًّ: لم ينجح في منع التفجيرات، لم يلعب دوره كمحامٍِ، لا يريد الاستمرار في لعبة العمالة والازدواج. لم يعد يملك سوى حقيقته يقولها بعينين زائغتين أملاً أن ينساه الجميع وبسرعة وأن لا يقرّر أحد تدفيعه ثمن الخيانة الاولى والخيانة الثانية. ويتساوى قول الحقيقة هنا مع إعلان الإفلاس والسقوط في قبضة خواء مرعب يطرح أسئلة كثيرة حول معنى الاستمرار في الحياة، أي حياة. ليس هذا دفاعاً عن مازورييه. فالرجل لا يستحق أكثر من الشفقة وهو الذي ابتذل مهنة الدفاع إلى هذا الحد، وحوّلها إلى مجرد آلة تنصّت واستماع وإرسال. صحيح أنه عرف لحظات صدق جعلته يدافع، بحماس، عن أصدقاء عبد الله المعتقلين في إيطاليا، ولكن هنا أيضاً كان حماسه العفوي، جزءاً من خطة وضعها غيره. لقد أمضى حياته مكتفياً بـ «قرع الطبلة» وهو يقول إن شكله كفتى صغير جعل الكثيرين يُخدعون به.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/9/2013 11:07:13 PM

تحية لك ضحى، والحرية لجورج عبد الله، والسلام لروح جوزف سماحة

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 1/31/2013 1:31:14 PM

أغيبُ، فيُفني الشوقُ نفسي ، فألتقي ،فلا أشتفي ، فالشوقُ غيباً ومُحضرا http://www.assafir.com/WeeklyArticle.aspx?EditionId=732&WeeklyArticleId=20288&ChannelId=2760

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 1/30/2013 11:14:09 PM

للأسف ان يتحول المحامي الي عميل ،وقد دفع جورج ثمن ازدواجية المعايير الفرنسية،وشكرا السيدة ضحى على اثارتك لموضوع الاسير المعتقل تعسفاً من قبل دولة تعتبر نفسها نبراساً بالعدالة،ولا استغرب مواقفها فهي معروفة،فالدولة التي تحرق الكتب التي لا تناسبها مثلما فعل النازيون،لا يمكنها ان تعلمنا المبادئ ،ولكن استغرب كلام مي شدياق بحق المناضل البطل جورج عبدالله،فتلك المرأة التي تعتبر نفسها مميزة ،وهي ليست كذلك،لانها أولاً لم تقرأ ماذا كتب المرحوم جوزف سماحة عن هذه القضية المحقة،وثانياً أنها فاقدة للإنسانية والانتماء.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم