شربل نحاس أصدر تكتل التغيير والإصلاح أخيراً كتاباً بعنوان «الإبراء المستحيل»، تنشر جريدة «الأخبار» أجزاءً منه تباعاً. واتصل بي النائب إبراهيم كنعان، الذي أشرف على إعداد المؤلف أو هو وضعه، يوم الخميس الماضي _ وهو اتصاله الأول منذ سنة تقريباً _ ليدعوني إلى حفل يقام اليوم الاثنين لإطلاق الكتاب، لأنه، على حدّ قوله، كان لي فضل أساسي في إطلاق الموضوع الذي يتناوله.

رأيت أنه لا بد بالتالي من تلبية الدعوة، ليس إلى الحضور أو عدمه (وهو أمر ثانوي) بل إلى فتح النقاش في مسألة الإدارة المالية للدولة وللبلاد، في وقت يشهد فيه كل لبناني منظر انهيار الدولة المفجع، ولأن الموضوع خطير بمكان، ولأنه لا يجوز التخلي عن معالجته.

في معاينة واقع الأمور

يركّز الكتاب على القول، بالعامية التي تصعّب القراءة بدل تسهيلها، إن إبراء «فؤاد السنيورة وفريقه السياسي» مستحيل، مستنداً إلى جملة من المخالفات تراكمت بين عامي 1992 و2010.
نعم، إن إبراء فؤاد السنيورة مستحيل:
ففؤاد السنيورة اعتاد تقديم مشاريع موازنات دون احترام الموعد الدستوري لتقديمها، وتبرير الإنفاق بها قبل إقرارها، لكن نجيب ميقاتي لم يرسل أيّ موازنة أصلاً لسنتين متتاليتين.
اعتاد فؤاد السنيورة تسريب جزء من الإنفاق خارج الموازنة خلسة، أما نجيب ميقاتي فقد دفع مرتين أجر المحكمة الدولية من صندوق مجهول، وجاهر بأن أجور القطاع العام لن تدخل في الموازنة (التي لن يقدمها أصلاً).
اعتاد فؤاد السنيورة إرسال حسابات إلى الإدارة المالية لا يوافق عليها ديوان المحاسبة، لكن مجلس النواب كان يقرّها، أمّا ميقاتي فلم يرسل حسابات إلى الإدارة المالية أصلاً.
إبراء من؟ محاكمة من؟ ومواجهة من، بل ماذا؟ أفراد في فريق سياسي أو نظام مترابط قائم على هدم انتظام الدولة وعلى استقطاع أجزائها وعلى ارتهان المواطنين وإذلالهم، وعلى استتباعهم وتيئيسهم؟
السنيورة لم يكن وحده. ولا ميقاتي اليوم وحده. ومحبّذو الإبراء كثر، في مجلسي النواب والوزراء، وهم متأهّبون. وليست القصة قصة 8 و14 آذار، ولا قصة طوائف.
صحيح أن قلة يشعرون بوزير للمال. صحيح أن سهر رئيس الجمهورية على الدستور لم يشمل حتى اليوم المسائل المالية والاجتماعية والاقتصادية، لكن الصحيح أيضاً أنه وُجد، من حولهما، وزراء يحملون شعار «المقاومة» وآخرون يحملون شعار «التغيير والإصلاح»، وهما كتلتان لم تشاركا، مع بعض الآخرين، في السلطة التنفيذية منذ عام 1990. فكان الرهان عليهما مشروعاً.
لكن مقاومة هؤلاء وتغيير وإصلاح أولئك لم تشمل، هي أيضاً، المسائل المالية والاجتماعية والاقتصادية. لا بل على العكس تماماً: ألم يوافق هؤلاء على قوننة الأعمال غير القانونية التي كانت تجري سابقاً، مروراً بسرقة تعويضات نهاية خدمة الأجراء، وصولاً إلى تبرير وزير العمل لكسر مبدأ التكافل الاجتماعي في مجال «التعويضات العائلية والمنح المدرسية» ولمبدأ تكافؤ المواطنين أمام ظروف العمل، بأن «العادة قد جرت هكذا» وبالاستناد إلى مرسوم مزوَّر وقانون جائر ومخالف للانتظام العام؟
المحاسبة، من داخل السلطة، لا بد أن تكون بالأفعال أو أقله بالمواقف، وليس بالانتقاد والشكوى.

في أهمية الموضوع وأبعاده

الفساد نظام وليس عصابة أشخاص أشرار أو مجموعة ارتكابات لم يكن سياقها ولا مفاعيلها خافية على أحد. الفساد هو تقويض الثقة بالدولة من خلال شراء السلطة بالمال (بما فيه المال «الخيري») وصرف السلطة للحصول على المال أو في خدمة أصحابه. وهو يقوم على الرشوة وتوزيع المنافع وشراء الولاءات من جهة، وعلى التهويل بالخراب والانهيارات والدمار على من تمرّد، من جهة أخرى ملازمة. رشوة بالمنافع وتهويل بالدين، على صعيد الوطن، ورشوة بالدعايات والترقيات وتهديد بالصرف والضرب على صعيد المؤسسات التجارية. المنطق ذاته، واللاعبون ذاتهم، من جهتي الخندق.
أيّ إنفاق خارج الأصول أو أيّ حجب لإنفاق وتقديمات أصوليّة واجبة، وأيّ جباية خارج الأصول أو أيّ إعفاء من جباية وغرامات أصوليّة واجبة، هي عمل سياسي يبني أو يهدم ولاءات للمواقع المفسدة.
لسنا في معرض نقاش تقني ولا في معرض جدول فضائح. بل نحن في مواجهة نظام سلطوي ملعون، يحوّل كلّ من يتعايش معه إلى شريك فيه: من مستفيد ومتواطئ وساكت.
كتب أفلاطون في رسالته السابعة مقطعاً وحيداً عن سيرة سقراط: «سقراط، صديقي، كان يكبرني سناً، ولا أخجل من القول إنه كان أعدل الناس في تلك الأيام. قرّر الطغاة الثلاثون (الذين تولّوا حكم أثينا تحت جزمة اسبرطة) تكليفه بجلب مواطن بالقوة لتصفيته، وقصدهم من ذلك واضح، وهو ليس إلّا جعل سقراط شريكاً في أفعالهم، برضاه أو غصباً عنه. لكنّه رفض إطاعتهم، وفضّل المخاطرة بكل ما لديه على أن يتحوّل إلى شريك في أعمالهم الكافرة». وقال الجنرال ميشال عون في يوم مشهود: «يستطيعون أن يسحقوني لكنهم لا يستطيعون أخذ توقيعي». والإشارتان كافيتان، وإن كانتا تجرحان الخجل، فإنهما تشحذان الهمم، وهو المطلوب اليوم.

في بناء القضية وتتابع فصولها

مواجهة هذا النظام، وهو الذي ولد من رحم تسوية تاريخية إقليمية واءمت بين سلاحي الحرب والمال، بدأت منذ عام 1990 مع النموذج التأسيسي الذي شكلته الشركة العقارية. واستمرت على رغم مدّ جارف من الإفساد والاستسلام، حتى لاحت فرصة عام 1998، فوُضع «برنامج التصحيح المالي» الذي تخاذلت الحكومة عن السير به. وتجدّدت المواجهة عام 2004 بالتعاون الوثيق مع الدكتور إلياس سابا، في مفصل شديد الحراجة. ثم استعيدت عام 2006، مع وضع «برنامج اقتصادي اجتماعي من أجل لبنان» بعيد خروج الجيش السوري وترائي فرصة لإرساء عقد تأسيسي وطني. ثم استمرت وتطورت من خلال التعرّف إلى الجنرال عون والتعاون معه في مشاريع عديدة، منها الخطة الشاملة لترتيب الأراضي وبرنامج الاستثمارات العامة ونظام التقاعد والحماية الاجتماعية.
بعدها انتقلت المواجهة إلى داخل حلبة السلطة التنفيذية في حكومة الوحدة الوطنية التي أولاني الجنرال عون ثقته بمشاركتي فيها، لأنّه رأى تلاقياً بين أطروحته المركزية _ بعد تحرير الجنوب والخروج السوري _ وهي بناء الدولة وكسر حلقة الفساد، وبين العمل الذي كان قد تراكم في ميادين وساحات إجرائيّة شتى. وكنت قد ناشدت سعد الحريري، من يوم انطلاق الحكومة (وهو أيضاً داخل جديداً إلى السلطة) لخوض مغامرة تأسيس دولة في هذا البلد، معاً. وفي بدايات تلك الحكومة تم تحقيق بضعة خروقات:
صدّ عدد من الخروقات الوقحة: المندرجات المزعومة لمؤتمر «باريس 3» ومنها الخصخصة الزبائنية وتحويل الاحتكارات العامّة إلى احتكارات خاصة؛ الإعفاءات الضريبية الممنوحة لتجار العقارات؛ زيادة ضريبة القيمة المضافة؛ الالتفاف على وضع سقف للاستدانة في الموازنة؛ تمديد عقود جائرة بحقّ الإدارة والمواطنين ومنح إعفاءات ودعم لمنتفعين...
تثبيت بضعة إنجازات إيجابية، لعل أبرزها: فرض احترام شمولية الموازنة؛ فرض وضع حسابات للإدارة المالية؛ استعادة أموال البلديات والضمان... وهي كانت في أساس العمل الذي انخرطت فيه لجنة المال والموازنة التي ترأسها النائب إبراهيم كنعان.
وخلال مرحلة تصريف الأعمال التي امتدّت فعلياً عاماً كاملاً، تكثّف العمل البحثي والتثقيفي والبرنامجي، فوضعتُ مشاريع قوانين وبرامج عمل عديدة. ولما تألفت حكومة نجيب ميقاتي، بدأت تتوالى الإخفاقات والتراجعات، لأن أركان النظام عادوا إلى مقاليده وانكفأ الطموح بالتغيير؛ اللهم إلّا تغيير أسماء الوكلاء الذين يمثلون القوى الإقليمية ذاتها وسلطان أصحاب المال ذاتهم. وكان المكتوب واضحاً من العنوان _ أي منذ صياغة البيان الوزاري. وبعد إقامة خلوات عامة ومتخصصة، وبعد التقدم بأوراق رسمية باسم التكتل في مجلس الوزراء، وبعد خوض مفاوضات عسيرة مع «الحلفاء»، وبعد مواجهات قاسية مع «أعضاء» في التكتل (!)، أدّت التجربة، للأسف ومع المرارة، إلى الافتراق مع تكتل التغيير والإصلاح.
بقي الخصم يناور بعدة بسيطة وبليدة: «خلصونا بقى، بسيطة»، «القصة ما بتستاهل»، «طول عمرنا منعمل هيك» (بالعامية)...
سقى الله أيام ريا الحسن، أقلّه كانت تعترف بالأخطاء الدارجة وتلتزم بالإقلاع عنها، وإن لم تجرؤ على مقاومة ضغوط فؤاد السنيورة، «الخط الأحمر»، لتصحيح الأخطاء السابقة والمحاسبة عليها. أما نجيب ميقاتي فقد انتقل، مستقوياً بالمقولات التسخيفيّة المذكورة، لتبنّي بدع خطيرة مثل انه سيّد قرار وضع أيّ موضوع على جدول الأعمال أو منعه، حتى لو كان موجباً دستورياً أو قانونياً، أو أنّه سيد قرار إحالة مشاريع القوانين أو حجبها بعد إقرارها، أو أنّه في مجلس الوزراء لا تناقش اقتراحاته، أو أنه سيد قرار منع محاسبة المقترفين لأنه اعتبر نفسه من طائفتهم. وسانده رئيس الجمهورية باجتهادات دستورية إبداعية. ووصلا إلى مقولة، لا يجوز نسيانها، وهي أن الوزير ملزم بالتوقيع على مرسوم غير قانوني، ومبطل سلفاً من مجلس الشورى، ولم يطرحه الوزير المختص أصلاً على النقاش، وذلك كله لانتزاع سلاح الموقف ممّن يسعى إلى تغيير النظام، وتوريطه في تأدية طقوس الطاعة لموبقاته، وجعل الأمور «بسيطة، وما بتستاهل، وطول عمرنا منعمل هيك» بالفعل لا بل بالقول.

في هدر فرص التغيير أو التقاطها

الغاية المعلنة من كتاب «الإبراء المستحيل» دعوة اللبنانيين إلى محاسبة «فؤاد السنيورة وفريقه السياسي» في الانتخابات النيابية. وهي تتكرّر لازمةً في آخر كل فصل من فصوله.
«انتخبوا نوابنا وسوف ترون». ترون ماذا؟ أن التكتل سوف يأتي بعشرة وزراء مسيحيين؟ ماذا سيفعلون غير الذي يفعلونه اليوم؟
المشكلة باتت تتصل بارتباك الغاية والوسيلة، بعدما تراجع الأمل وتوسّع اليأس والتبست الصورة.
التزام قوة سياسية، أياً كانت، بتغيير النظام، يعني دخولها في مواجهة معه. وهذه المواجهة لا أمل فيها إلا إذا وضعت نصب عينيها تحريك القوى الشعبية ورفع جهوزيتها وتعزيز ثقتها بالشعارات والمشاريع المرفوعة وبمن يحملها. حَسَمَ الجنرال عون في مسيرته خيارات مصيرية حادّة وحاسمة. هل تصرّف فريق التكتل على هذا النحو؟
لا تُشحَذ همم شعب مشتّت وقلق عبر تدوير زوايا المواقف، والسير «وفق ما جرت العادة»، ولعب أدوار الوسطاء، واستبدال المناضلين بالتجار، وتأجيل الاستحقاقات. التغيير، إن لم ترفده القوى الشعبيّة من خلال النضالات الواقعية، يصبح تدجيناً بمجرد مرور الزمن، وإن واكبه رفع النبرة واستذكار الشعارات أحياناً.
الأمانة في العمل هي الأساس، والأمانة مطلوبة للمبادئ وللمشروع السياسي وللثقة التي يوليها الناس. أما ظروف الأفراد، أياً كانوا، فيجدر تقديرها وفهمها. ليست المسألة مسألة أخيار وأشرار، بل مسألة تغيير نظام. وهذا مسار نضالي صعب يمرّ بمراحل وحقبات، تتقاطع فيها القوى فتلتقي وتفترق. لكن المهمّ ألا يقع المشعل ولا يُقمع النقد ولا تخبو الإرادة ولا ينطفئ الأمل.