علاقة لبنان بقبرص لا تقتصر فقط على السياحة والزواج المدني والنفط والغاز؛ بين البلدين المتوسّطيّين حبل سرّة يؤمّن للجزيرة التي تعاني من انكشاف مصارفها الحاد على الديون اليونانيّة _ ومن اتهامات بتبييض الأموال _ قارب نجاة إلى حين يرضى أشقاؤها الأوروبيّون عن سلوكها.
ففي نهاية عام 2011، حين بدأت قبرص تعاني من نقص حاد في الأموال لتأمين نفقاتها العامّة، لجأت إلى روسيا للحصول على قرض بقيمة 3.3 مليارات دولار لتسيير شؤونها. وفي العام اللاحق، تلقّت دعماً من نوع آخر مرتبط بشكل أو بآخر بلبنان، عبر بنك «FBME» الذي يتخذ من تنزانيا (أفريقيا الشرقية) مقراً له. عمد هذا المصرف إلى استثمار 13% من ميزانيته الإجمالية في سندات الخزينة القبرصية المصنّقة عند درجات سيئة جداً. ويُحلّل البعض بأنّ خطوته هذه سببها رغبته في تمتين حضوره في الجزيرة التي تؤمّن له الانكشاف على اقتصاد اليورو بمجمله الذي يحوي 330 مليون نسمة؛ غير أنّ المصرف ينفي الربط بين النشاطين.
ولكن لهذا المصرف قصّة لافتة. ففي عام 1982، تمّ تأسيسه في قبرص على شكل شركة فرعية لمصرف «فدرال بنك» (Federal Bank) الموجود في لبنان منذ عام 1952 ويُعدّ من أوائل المصارف المرخصة في البلاد. بعد أربعة أعوام غيّر بلد الأساس من لبنان إلى جزر الكايمن، ولذا صار الفرع القبرصي تابعاً للأعمال في تلك الجزر.
استمرّ الوضع على هذا النحو حتّى عام 2003 حين أنهى «FBME» وجوده في الكايمن وأعاد تأسيس نفسه في تنزانيا، لتكون الأعمال في قبرص تابعة للشركة الأم في هذا البلد الأفريقي. ومنذ عام 1993، يملك المصرف مكتباً تمثيلياً في موسكو خاضع لإشراف المصرف المركزي الروسي.
ويوضح «فدرال بنك» على موقعه الإلكتروني اللبناني، أنّه تابع لمجموعة «صعب» المالية _ تيمّناً باسم المؤسس ميشال أيّوب صعب _ التي تضمّ «FBME» بفرعيه ومكتبه التمثيلي، إضافة إلى بنك التمويل التجاري في روسيا.
ويُشار أيضاً إلى أنّه في عام 2005، أسّس «FBME» شركة تابعة له كلياً في قبرص مختصّة بإصدار بطاقات الدفع الإلكتروني في القطاع المصرفي لخدمة البلدان الأوروبية تحديداً.
هكذا يبدو المصرف اللبناني منغمساً إلى حدّ كبير في تعويم قبرص مالياً حتّى الآن، لدرجة أنّ صحيفة «The Wall Street Journal» أشارت في تحقيق نشرته أمس إلى أنّ قبرص تقف على رجليها حالياً بفضل «روسيا ومصرف تانزاني مملوك لبنانياً».
المشكلة في هذا الإطار هي أنّ استثمارات هذا المصرف في الدين القبرصي تُثار بالتوازي مع اتهامات أوروبية لقبرص بتبييض الأموال.
وفي الواقع، تصاعدت خلال الآونة الأخيرة الأصوات الأوروبيّة المندّدة بسلوك الجزيرة الصغيرة باعتبارها خارجة عن القانون مالياً. وسُرّب أمس، وفقاً للتحقيق الصحافي المذكور، أنّه خلال لقاء لوزراء مال منطقة اليورو في كانون الأوّل 2012، تحدّثت وزيرة المال النمسوية بلهجة حادّة مع زميلها القبرصي حول هذه المواضيع المثيرة للجدل، وطلب نيقوسيا الدعم الأوروبي. سألته: «ماذا عن الروس وشركاتهم الوهمية التي تبيّض الأموال عبر مصارفكم؟ هل سيستفيدون أيضاً من أموال المكلّفين (الأوروبيين)؟» أي من رزمة الإنقاذ المطلوبة.
وخلال اجتماعهم في بروكسل بداية الأسبوع الجاري، أطال وزراء مال الاتحاد الأوروبي محادثاتهم لكي يتوصّلوا إلى إجبار قبرص على قبول لجنة مستقلّة تُجري تحقيقاً في شأن مدى احترام المؤسسات القبرصيّة لمعايير الشفافية الدولية في إطار محاربة تبييض الأموال.
أحد أهم المجالات التي سيُدقّق فيها الأوروبيون هي تلك التيارات المالية الحامية بين روسيا والجزيرة.
غير أنّ الوزراء لم يحدّدوا الآليّة التي يُمكن بموجبها تحرير المساعدة لاقتصاد الجزيرة الذي يُعدّ الثالث الأصغر في منطقة اليورو التي تضمّ 17 بلداً. وقد وصلت إلى الجزيرة أمس، لجنة من ترويكا الدائنين، المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لتفقّد أصول، ومشاريع وحسابات المؤسسات العامّة الرئيسيّة التي تمّ توقيع مذكّرة تفاهم مبدئية حول خصخصتها في إطار برنامج إنقاذ قد يُقرّ مستقبلاً.
وبالفعل، بعد نجاح الرئيس ذي الميول اليمينيّة نيكوس أناستيادس في الانتخابات الرئاسيّة في شباط الماضي، تبدو أجواء السلطة أقلّ عدائية لبرامج الخصخصة المقترحة.
وللدلالة على حجم المشكلة، تطلب نيقوسيا 17 مليار دولار (22 مليار دولار تقريباً) لدعم ميزانيات مصارفها المكشوفة على اليونان التي تعاني أزمة حادة في ماليتها العامّة؛ هذا المبلغ يُساوي حجم الناتج المحلي الإجمالي للجزيرة، أي حجم اقتصادها. وإذا اقترضته قبرص فإنّ معدّل دينها العام إلى ناتجها سيرتفع إلى 145%. هذا المستوى غير مستدام أبداً وفقاً للخبراء. وأساساً، فإنّ معايير الاتحاد الأوروبي تنصّ على ضرورة ألا يتخطّى المعدّل عتبة 60% لكي تبقى الاقتصادات وماليتها العامّة بعيدة عن المخاطر وعن تداعيات الاقتراض المفرط.
وكانت الجزيرة قد تقدّمت بطلبها في حزيران الماضي حين تبيّن أنّه لن يعود بمقدورها تمويل دينها العام. وفشلت المحادثات التي أجراها الشركاء الأوروبيون مع الإدارة الشيوعية السابقة. واليوم تتكثّف هذه المحادثات.
وإذ تبدو الموافقة على لجنة التحقيق خطوة في الاتجاه الإيجابي للجزيرة، إلا أنّ الشروط ليست محسومة بعد. فالوزراء الأوروبيون يُشيرون إلى أنّ الظروف لم تجهز بعد لاتخاذ قرار جازم عموماً ولإشراك صندوق النقد الدولي مثلاً فيها.
وكان المجتمع الأوروبي نائياً بنفسه حتى الآونة الأخيرة عن الأزمة القبرصيّة، ولكن يبدو أنّه لا ضير في ذلك طالما أنّ لبنان _ أو بالأحرى، الخبرة اللبنانية المصرفية _ أمّنت للجار المتوسطي رافعة ماليّة!
ولكن المشترك أيضاً بين لبنان وقبرص هو أنّ البلدين ينتظران الكنز الموجود تحت مياه المتوسّط لمداواة جراحهما المالية. وفي كانون الثاني 2013، زار الرئيس القبرصي السابق ديميتريس كريستوفياس لبنان والتقى نظيره ميشال سليمان، وجرى التطرّق إلى ملف الوقود الأحفوري في المتوسط وإلى الخطأ في ترسيم الحدود بين إسرائيل وقبرص وتمثّل بقضم 860 كيلومتراً مربعاً من الحقوق اللبنانية، من أصل 22 ألف كيلومتر هي المنطقة الاقتصادية الخالصة (EEZ).