موسم الحلم اللبناني

لم أقو على حضور اجتماع التحرير اليوم. ولم أحضره بالأمس. «طنّشت» متعلّلة بالتقرير اليومي الذي سيصلني في كل الأحوال. مع أن هذا الموعد اليومي في حياة الجريدة هو الأحلى، حيث نتداول والزملاء الأخبار والأفكار... لكن، ليس للأمر علاقة بالجريدة فعلاً، بل بحالنا، بحال البلد والمنطقة وحتى بالعالم.

انها النتيجة الحتمية لانكشاف الجسد السياسي اللبناني "المحتل"، من الداخل والخارج، ليبدو على حقيقته تابعاً بكليته، بدون أي رتوش للخارج.. هكذا، يضيق العالم علينا، فيصبح أصغر من دائرة يصنعها تكرار أحداث، بمنأى عن أي تأثير لنا.. حينها، كيف بإمكانك أن تذهب إلى هذا النوع من العمل وكأنّ له معنى؟. كأنّ لكلامك، لكتاباتك، لجهدك، وزنٌ أو تأثير على الرأي العام؟ حين يبدو كل شيء مسدوداً «على مدّ عينك والنظر» هل هناك أفضل من البقاء في المنزل؟ أصلاً، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، أحاول يومياً وقبل أن أفتح عيني صباحاً، إيجاد فكرة، حجّة، تقنعني بالاستيقاظ في هذا «المجتمع» المدني المسلّح. هكذا مجتمع لا يشجع إلا على الاستغراق في النوم، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً... أو البقاء على الأقل في المنزل. لا أردّ حتى على الهاتف لو كان الأمر عائداً لي. عزلةٌ تامّة ومتابعة على التلفزيون. يصبح لبنان بالنسبة لي أكثر فأكثر.. تلفزيون بمحطات كثيرة.. أتسقّط أنباءه، تغضبني نشرات أخباره، وحتى في برامج «التوك شو» السياسي والفني والاجتماعي: التفاهة عامة. والابتذال يكاد يهيمن على كل شيء.
ميدانياً، في عملي طبعاً، لم يعد ممكناً الاقتراب من «أيّ ناس كان». يشكو الصحافيون في كل مكان من «أبلستهم». هم يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية، صحيح. ولكن الناس ايضاً لم يعودوا يطيقون سماع ما يخالف «آرائهم». أصبحت السياسة، شيئاً شخصياً.. لا أحد، يبحث عن الموضوعية، او عن المهنية. كأن الناس لم يعودوا يهتمون بشأنهم العام، لا يثقون ببعضهم، ولا بالسلطة السياسية، ولا بالمستقبل..لا أحد يبحث عن المعارك المواطنية المشتركة إلا قلّة.. لذلك، فإن حجم تحرك «هيئة التنسيق النقابية» ونتائج ذلك التحرك في هذا الجو كانت بالفعل اختراقا مهولاً. كنت مخطئة في مقالتي السابقة عن «الزحف العظيم». كان عليّ أن أنظر إلى الأمر من هذه الزاوية.
الناس مستشرسون، يستشعرون أنهم مهمّون.. بمذهبيتهم لا بمواطنيتهم. مهمّون لمَن يهمّه الأمر، أي لزعمائهم . زعماء طائفيون كَذَبة، خونة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ما أن سمى الحريري وجنبلاط تمّام سلام حتى خفّ المرشح الى السعودية.. من أجل العمرة لا شك.
تساءلت دائماً: لمَ يحب اللبنانيون زعمائهم؟ ولم أعثر إلا مؤخراً على الجواب: لأنهم تجسيد «الحلم اللبناني»، أي أنهم يمثلون إمكانية، و«سهولة» الوصول إلى السلطة، بدون مؤهلات حقيقية أو بالرغم من ماضٍٍ فاسد، ليخرجوا من جنّتها، منتفخي الجيوب، دون محاسبة.
يستولد الوضع اللبناني المسخ المستمر بالتدهور منذ عقود، مواطنين يشبهونه. تتغير حتى القيم الثابتة، البديهية. يخترع اللبنانيون أشكالاً هجينة من أصناف «الاجتماع السياسي». يتساوى الدخول في الدين والدخول في الحزب.. الناس تولد على دين أهلها، وفي لبنان على دين أحزابها. كل شيعي يصبح 8 آذار بالولادة، وكل سني يصبح 14 بالولادة أيضاً.. ومن هنا يبدأ «بالبناء» ليصبح زعيماً.. ليحقّق «الحلم اللبناني».
أما نحن؟ فموقعنا بعد تعطيل أدوارنا كلها، هو موقع المتفرّج: لا شيء في يدنا. لا قوة، لا وزن، لا قيمة، لا هوية ولا كلمة.
لا أعرف إن كان الاحتلال يصحّ طبقياً. فالوصف الوحيد الممكن للبنان اليوم هو أنه «محتل» بالكامل. احتلال طبقي من الداخل، واستعماري من الخارج. تدخل مورا كونيللي وتقول شيئاً عن وجوب الانتخاب في وقته حتى ولو كان قانون الستين. يجاوبها السفير الروسي من مكان ما، فيرد الرئيس الفرنسي.. أخبار عن زيارات مكوكية لزعماء الطوائف إلى «مراكز قرارهم»: السعودية، قطر، فرنسا، بريطانيا، إيران، أميركا، تركيا، الفاتيكان...
أما احتلال الداخل؟ فمن نوع آخر: هو طبقي. أي أن طبقة الأثرياء، طبقة «الواحد بالمئة»، تحتل الطبقة الفقيرة وما تبقى من المتوسطة، أي «كلّنا». يمسكون بمقدّراتنا، بالاحتيال، بالقوانين المفصّلة على مقاساتهم، بقوانين الانتخاب التي تزوّر إرادتنا، بتعطيل المحاسبة، والنقابات، بإفساد القضاء، بشراء الإعلام واستتباع الصحافيين، بتصفية المؤسسات العامة لحساب قطاعهم الخاص، بتصفية التعليم الرسمي، بالقضاء على اللغة العربية، على العملة الوطنية عبر الدولرة.. إنهم يمسكون بكل شيء ويخربون كل شيء.. يتصرّفون بنا كما يفعل مَن أمسك بعدوّ لا حيلة له. عدوّ عاجز لا يملك شيئاً من أمور نفسه!
ما الفارق إن كان شركاء هؤلاء أميركيون أم سعوديون أم قطريون أم إسرائيليون؟ طالما أنّ «مخلّصي البضائع» و«معقّبي المعاملات» لبنانيون منذ اكثر من عشر سنوات؟ طالما أنهم يظنّون أنّ أكبر كابوس يمرّ علينا في المنطقة اليوم، ليس إلا فرصة يفكر كل منهم بكيفية انتهازها من أجل تحقيق «حلم»، هو في الحقيقة ليس سوى الإسم الآخر لكابوسنا المواطني المستمر منذ عقود.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/9/2013 8:40:28 AM

إنّه منطق القبح، المنطق العام القبيح الذي ينقُل جيناته الوراثيّة لكل زاوية من زوايا هذا المطرح، المسمّى خطأً "وطن". لقد قلتيها بكل وضوح، عزيزتي ضحى، "يستولد الوضع اللبناني المسخ المستمر بالتدهور منذ عقود، مواطنين يشبهونه" ... لا يمكن للقبيح أن يستولد الجميل، والعكس صحيح ... هذا هو المنطق السائد الذي يخفي كل شيء عداه ... إنّما لا يستطيع محوه ... فأنت واحدة من الجميلات وسط هذا القبح ... كل مخلص في هذا المطرح ... كل مخلص هو جميل ... كل صادق هو نقطة بيضاء مقارنة بالنقاط السود التي تحيط به ... أشاركك الفكرة أنّنا نمرّ بمرحلة كثرت فيها النقاط السود، وطغت على الصورة العامة، وهي آخذة في الإنتشار بقوّة، وقوّتها بوبائها، فهي معدية تقلب الأبيض أسوداً بحفنة من الشعارات ... ما زال هناك بعض النقاط البيض هنا وهناك ... إلى متى؟ النتيجة غير مضمونة ... دورنا أن نحافظ عليها، ولو لم نستطع إكثارها (كأنّ لكلامك، لكتاباتك، لجهدك، وزنٌ أو تأثير على الرأي العام؟) ... أن نحافظ عليها هو أكثر ما نستطيع فعله ... لِأن هناك الأسوأ: أن نفقدها! ... تعلّمنا في هذا المطرح أن ليس هناك "الأسوأ" أو "الأقبح" ، لأنّنا سنُفاجأ في كل مرة بأسوأ وبأقبح ... لا قعرٌ ثابتٌ ... فحتّى القعر متحركٌ ... نتندّم في كل لحظة نحن فيها على ما كنّاه ... التحدّي حاليّاً هو المحافظة على القعر الذي وصلنا إليه ... أما الصعود فهو غير ممكن في جينات القبح !! اسبرانس دبس

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/4/2013 5:21:51 PM

تلفزيون بمحطات كثيرة- والعرض متواصل, أفلام دعارة طائفية!

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم