التشكيك في وجود «ربيع عربي» كان طاغياً في منتدى الاقتصاد العربي أمس. بعض المشاركين استبدلوا المصطلح بـ«الخريف العربي». المؤشرات كثيرة في هذا المجال، سواء لدى الدول النفطية التي باتت أكثر اعتماداً على النفط إلى درجة أن أي هزّة في هذه السوق ستكسر ظهرها، أو لدى الدول المستوردة للنفط التي تعاني من آثار وتداعيات ما سمّي ربيعاً، وخصوصاً في سوريا، حيث تنتقل تداعيات أزمتها تلقائياً إلى دول الجوار العربي، أي لبنان والأردن والعراق.
إذاً، الأزمات تعيد رسم خريطة العالم العربي كما يظهر من النقاشات الدائرة في منتدى الاقتصاد العربي. أبرز الأمثلة هو الأزمة السورية التي تمدّدت إلى لبنان ودول الجوار. «اسكوا» أنهت دراسة عن تداعيات الأزمة السورية على لبنان بما يظهر مدى الترابط بينهما، فتبيّن لها أن «كل نقطة تراجع في النمو الاقتصادي في سوريا تنعكس تراجعاً بنسبة 0.2% في الاقتصاد اللبناني» بحسب مدير إدارة التنمية الاقتصادية والعولمة في «اسكوا» عبد الله الدردري. فمنذ اندلاع الأحداث، تراجع الناتج المحلي في سوريا بنسبة 40% وازداد عدد العاطلين من العمل إلى 2.5 مليون شخص، ودمّر 40% من الأصول الرأسمالية المنتجة. هذه المؤشّرات كان لها صدى في الاقتصاد اللبناني حيث انخفض نموّ الناتج المحلي الإجمالي من 7% إلى 1%. ووفق تقديرات «اسكوا»، فإن استمرار القتال في سوريا يزيد في حدّة انخفاض الناتج المحلي هناك بنسبة 58%، وهذا الأمر سيظهر في المؤشرات اللبنانية أيضاً.
ويضيف الدردري أن أزمة سوريا أحدثت زيادة في عدد المقيمين في لبنان بنسبة 25%، أي إن نحو مليون سوري باتوا يقيمون في لبنان، وهذا الأمر سيؤثّر في سوق العمل، «فإذا انخرط السوريون بكامل عددهم في سوق العمل اللبنانية، فسيؤدي هذا الأمر إلى تدني الرواتب والأجور بنسبة 14%، فيما عدم اندماج هذه الأعداد أو قسم منها في سوق العمل سينتج منه كارثة اقتصادية واجتماعية تضع أعباءً واسعة على الاقتصاد والمجتمع في لبنان».
في المجمل، هذا هو الخريف السوري ــ اللبناني، لكنه موسم يطال الأردن والعراق أيضاً اللذين يعانيان من مشاكل مشابهة من الأزمة السورية، ودولاً عربية أخرى كانت تعتقد أن «الثورة» انفجرت لدواع وأسباب اقتصادية واجتماعية انتهت بتحوّل سياسي لا مشروع اقتصادياً له. فبحسب مدير مركز «كارنيغي» بول سالم، «جاءت الثورات العربية من دون مشروع اقتصادي يمكنه أن ينقلها إلى مرحلة الاستقرار». ويضيف إلى هذا الكلام وزير المال الكويتي السابق بدر الحميضي شكوكه «حول أسباب نشوء حركات الربيع العربي فهي ليست تتعلق بالديمقراطية، ولم تنطلق من الوضع المعيشي». أما المدير العام للمعهد العربي للتخطيط في الكويت بدر مال الله فيعتقد أنه لا يوجد ما يؤشّر إلى توصيف الربيع العربي أو الخريف العربي، «فهذا الربيع في الكويت هو عبارة عن فوضى سياسية وفكرية». ووفق الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، فإن «مصر تشهد أزمة غير مسبوقة»، أما الثورة في تونس فقد «همّشت الشباب وأصحاب الشهادات العليا الذين أصبحوا على هامش الدورة الاقتصادية»، على ما يقول مستشار رئيس الحكومة التونسي المكلّف سليم بسباس.
لكلّ من هؤلاء توصيف خاص للربيع العربي على اختلاف مواقعهم من الأزمات التي تشهدها بلدانهم، لكن الجميع يتفقون على أنه لم يعد ربيعاً، وهو أمر يصدّق عليه تقييم صندوق النقد الدولي بحسب مدير المركز الإقليمي للمساعدة الفنية للشرق الاوسط في الصندوق محمد الحاج. هذا الخبير يفصل بين الدول المصدرة للنفط وتلك المستوردة له، مشيراً إلى أن الصندوق اعتمد تسمية «التحوّل العربي» وليس «الربيع العربي». ويؤكد الحاج أن أوضاع الدول التي تشهد تحولات صعبة، ويتوقع الصندوق أن يستمر الوضع على حاله في ظل التعقيدات التي ترافق هذه التحولات: فمعظمها لم يقرّ دستوراً جديداً للبلاد، ومعظم حكومات البلدان المتحوّلة انتقالية، وبالتالي فإن هذا المناخ السلبي سيؤثّر سلباً على ثقة المستثمر وعلى خلق فرص عمل، فيما ترتفع كلفة المعيشة، وأبرز مثال على ذلك هو سوريا وبلدان الجوار.
غير أن وطأة الأعباء هذه ستزداد لو أضيفت إليها توقعات النمو في أوروبا حيث يشهد معظم بلدان هذه المنطقة ركوداً اقتصادياً سيؤثّر على صادرات الدول العربية إليها. ومن المعروف أيضاً أن بعض البلدان تعتمد على السياحة بدرجة كبيرة، «لكن أعداد السياح لديها لا تزال أقل مما كانت عليه عام 2011... والاستثمارات الأجنبية فيها لا تزال ضئيلة» يقول الحاج. وبالتالي، فإن توقعات صندوق النقد لهذه الدول أن تحقق نموّاً لا يتجاوز 2.7%، وهو نمو بطيء ولن يكون له تأثير على تقليص معدلات البطالة في العالم العربي الذي يحتاج إلى معدلات نمو أكبر لزيادة فرص العمل.
وفي ظل الأزمة الحالية، يلفت الحاج إلى أن غالبية الدول العربية لجأت إلى زيادة الدعم والتوظيف في القطاع العام، ما سيترك أثراً على عجز ميزانياتها ويزيد أعباء الدين العام ويخفض احتياطات المصارف المركزية من العملات الأجنبية... أي إن ركائز الاقتصاد الكلي تضعف، فيما يصعب على الدول المأزومة أن تقوم بأي إصلاحات نظراً إلى ضعف هوامش تحرّكها أثناء الأزمة.
في المقابل، كان خريف الدول المنتجة للنفط أسوأ نسبياً، إذ إن هذه الدول أصبحت أكثر اعتماداً على إيرادات النفط لتمويل التنمية فيها، وقد تكون لديها فوائض مالية كبيرة، إذ يتوقع صندوق النقد أن يكون لهذه الدول فائض إجمالي في الحساب الجاري يبلغ 370 مليار دولار في عام 2013، لكن بعض الدول تحتاج إلى أن يكون سعر برميل النفط 100 دولار حتى تبقى ميزانياتها متوازنة، «وأي خضّة في سوق النفط تؤثّر عليها سلباً».