العربُ أمّةٌ نادمة. رفضوا تقسيمات سايكس _ بيكو واليوم يبكون عليها ويرفضون التقسيمات الجديدة. التقاسم البريطاني _ الفرنسي يسقط أمام التقاسم الإسرائيلي _ الأميركي _ الإيراني _ التركي. شرق أوسط جديد وأمم متّحدة جديدة. أين العرب؟في الخليج. عقلاء ينتظرون. عربُ مصر وشمال أفريقيا والهلال الخصيب يؤدَّبون حتّى الترميد. عربٌ مكروهون لقوّتهم ومكروهون لضعفهم. عربٌ مأسورون لغناهم ومأسورون لفقرهم. واحرَّ قلباه.

■ ■ ■


حدّثني الأستاذ مروان البزري عن كتاب للباحثة البروفسورا في جامعة برنستون، باتريسيا كرون، ظهر قبل نحو أربعين عاماً بعنوان: «الهَجَريّون»، وكان أطروحتها للدكتورا. دراسةٌ حول شعوب الهلال الخصيب (باستثناء العراق) منذ أقدم الأزمنة المدوَّنة. شعوبُ الفجر الهائمة بحثاً عن جذور غائمة غائرة في ضباب الخليقة. شعوبٌ عطشى إلى مزيد من المعرفة حول هويّاتها الثقافيّة، تارةً تنسب نفسها إلى قبائل شبه الجزيرة وطوراً إلى الفرس والإغريق والرومان، وحين تعيى أو لا يروقها النَسَب تنسج الحكايات حول نزول أجدادها من أعالي آسيا وثنايا الهند والسند. البحث عن الهويّة بات بديلاً من البحث عن الحقيقة. حتّى أفلاطون طوّحت به الأحلام وأهواء الصدق نحو تقريع الإغريق عندما أخذ يحثّهم على التواضع حيال مصر والإرث الفرعوني صائحاً فيهم: «نحن أَفضلُ ما فينا جاء من هناك!».
الهَجَريّون. ما زالت هذه القبائل تفتّش. كلٌّ يُغنّي على ليلاه. وأجمل ما في الهجرة ليس الوصول بل التيه، على ألّا يكون مضرّجاً بالدم.

■ ■ ■


على ذكر الهجرة: لماذا تتضخّم الأنا عند المثقّفين اللبنانيّين المغتربين إلى أميركا أكثر ممّا تتضخّم عند أقرانهم المغتربين إلى أوروبا، وباريس تحديداً؟ والأصحّ كتابة السؤال بصيغة الماضي لا الحاضر. الأمثلة عديدة، من جبران خليل جبران إلى يوسف الخال، ومن الريحاني ونعيمه إلى أنطون سعادة وشارل مالك. جبران نفسه كان وديعاً كالحَمَل خلال سنوات إقامته في باريس وصداقته ليوسف الحويّك وأخذ منذ عودته إلى نيويورك يتحوّل إلى ماردٍ هدّار ليرتقي بنفسه إلى مراتب الأُلوهة هاتفاً بصديقته وحاضنته ماري هاسكل: «أريد أن أُحَبّ! أريدُ أن أُعْبَد!». وفي مكان آخر يقول: «أريد أن أُحَبّ للأشياء التي لم أقُم بعملها بعد».
في أميركا، خاصة إبّان الثلث الأوّل من القرن العشرين، مجتمعاتٌ خجولة بضآلة ماضيها التراثي. باريس كانت العاصمة الثقافيّة للعالم. كانت تتّسع للناشئة ويجد فيها كلّ واحدٍ ضالته، لكنّها كانت أسطع منهم صغاراً وكباراً. الدالّة لباريس لا للعابرين فيها. ولا للمقيمين. ولا للراقدين تحت التراب.
حفرت بلديّة باريس لوحة تذكاريّة أنزلتها على حائط البيت الذي أقام فيه جبران بحي مونبارناس لكنّها لم تخلط (حتّى الآن) بينه وبين اسم كتابه «النبي». أنعشت أميركا إيغو الذين كانوا يرعون أناهم فوجدوا هناك حقولاً خصبة، وأحبطت باريس حتّى أولئك الذين كانوا ربّما يستحقّون منها الدلال. ليت باريس ما زالت كما كانت.

■ ■ ■


وما أكثر الأشياء التي نتمنّى لو عادت كما كانت. البيئة، رائحة الناس، الأدب، الفاكهة والخضر، الخبز، التصوير والنحت، الأزياء، المسافات بين المباني.
العيون.
الرجال.

■ ■ ■


قرأتُ أمس بفرح مقابلة أجرتها سناء حمّودي في ملحق «السفير» عن فلسطين مع الأستاذ كامل قسطندي. من مواليد يافا 1925. احد أركان ألمع إذاعة عربيّة حتّى الآن هي محطّة الشرق الأدنى. كان آباؤها الأوّلون محمد الغصين وأحمد جرار وصبري الشريف. تأسّست في جنين بمبادرة من الانكليز لتكون منبراً يدافع عن سياسة الحلفاء ضدّ الترويج الهتلري. ثم انتقلت إلى قبرص عام 1947 مع نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين، حيث، تحت دفع تنظيمي صارم من مديرها الجديد ريكس كيتينغ، أصبحت، كما تقول سناء حمّودي، «إذاعة الشرق الأدنى الأولى بين الإذاعات العربيّة». ويضيف كامل قسطندي: «فإذا كنت في سيّارة تاكسي في بيروت تسمعها، وإذا قصدتَ قهوة الفيشاوي في مصر تسمعها».
استضاف قسطندي في برامج الإذاعة الكثير من الأدباء والفنّانين، من عبّاس محمود العقّاد وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وسعيد عقل إلى يوسف وهبي وعمر الزعنّي. عام 1950 انتقلت الإذاعة إلى بيروت واضطرّت، أمام تزايد الأعباء الماليّة، إلى ابتكار بابٍ للربح، «وبهذا دخل الإعلان المدفوع لأوّل مرّة إلى البرامج الإذاعيّة (...) وفي هذا الإطار عمل معهم الرحابنة في إعلان غنائي عن دواء اسبرو».
كان هناك، مع كامل قسطندي وصبري الشريف، العديد من الإذاعيين الفلسطينيّين الروّاد، والذين، بعد إغلاق الإذاعة عام 1956 إثر احتجاج مقدّمي البرامج العرب على العدوان الثلاثي، انصرفوا إلى العمل في الدول العربيّة وساهموا المساهمة الكبرى في إنهاض إذاعاتها. أوّل من استعان بهم كان رئيس الوزارة اللبنانيّة آنذاك سامي الصلح فكلّفهم تدريب المذيعين في الإذاعة اللبنانيّة. ويروي قسطندي لسناء حمّودي أنّ نوري السعيد، رئيس الوزارة العراقيّة في حينه، أوعز إلى سفارة بغداد في بيروت بتوظيف المستقيلين في راديو بغداد. أمّا قسطندي فقد أنشأ في بيروت مع المتموّل الفلسطيني بديع بولس شركة تسجيلات فنيّة كان من أركانها توفيق الباشا وزكي ناصيف ونزار ميقاتي وصبري الشريف وشقيقه سميح. ولم تلبث الشركة أن تطوّرت وصار اسمها استديو بعلبك، وهو الشاهد التاريخي لعدد هائل من التسجيلات الغنائيّة، بينها جزء ضخم من الريبرتوار الفيروزي _ الرحباني، وكان مهندس الصوت فريد أبو الخير محتفظاً في منزله بنسخةٍ ممّا لم يعد متوافراً لدى أحد، ولا حتّى لدى الملحّنين والنجوم أنفسهم. ويشهد العارفون لأبو الخير بأنّه من أمهر مَن تعاقبوا على هندسة الصوت.
حفنةٌ من الرجال، صبري الشريف وكامل قسطندي وصبحي أبو لغد وعبد المجيد أبو لبن وغانم الدجاني واللبناني الفلسطيني حليم الرومي، ثم في ما بعد رشاد البيبي ونبيل خوري، جدّدوا الفن الإذاعي في بيروت، وقام على أكتافهم جانب قيّم من النهضة الفنيّة اللبنانيّة. ومن ينسى ناهدة فضلي الدجاني وصوتها الدافئ في برنامجها من إذاعة بيروت «شعر وموسيقى»؟ لقد مرّوا في تاريخ لبنان كأشعةِ الشمس الخجولة بين الغيوم.



عابــــــرات


الحياة نسمةٌ ظاهرة والموت نسمةٌ خَفيّة.

■ ■ ■


حين يهيج البحر يصعد الموج ويهبط. حين يصعد يصهل وحين يهبط يوشوش. للموجتين هو البحر نفسه، بل هما الموجان نفسهما، بل هو الموج نفسه...

■ ■ ■


الانتقام أقبح من الفعل الذي سبَّبه. أحياناً يكون الفعل طيشاً، في داخله مسحةُ براءة. الانتقام يأتي من سابق تصوّر وتصميم، بعد اختمار الوقت. يولم الوقتُ لليوم الأسود.

■ ■ ■


كيف نظنّ أنّ لنا حقّاً أُهْدِر لنعتقد أنّ لنا حقّاً بالتعويض؟


■ ■ ■


يُشْعِرنا النهرُ بأنّهُ مستغَلّ، نهبٌ لمَن شاء.
وما كلّ نهر بنهر. الصغير، كأنهار لبنان، أليفٌ مضموم. الكبير، كالنيل والغانج والسين، بحرٌ آخر.
لا أحد يستطيع استغلال البحر.
البحر أسيرُ سَمَكه.