بين الباحث الجامعي والصناعي علاقة ملتبسة لم ترتسم ملامحها بعد في لبنان. ينتظر كل من الطرفين المبادرة من الآخر. نظرة الأول إلى الثاني أنّه يأخذ موقف المتفرج في ما يمكن أن يقدمه الباحث من تقنيات تزيد من قدرة الصناعي التنافسية في السوق المحلية والخارجية، بل إنّ بعض الصناعيين قد يعترفون بأهمية البحث في تطوير صناعاتهم، لكنهم يُحجمون عن إعلان ذلك لدواعٍ تجارية. أما الصناعيون فيقولون إنّ الباحثين لا يذهبون في عملهم إلى النقطة التي يعطون فيها القيمة الصناعية لنتائج أبحاثهم، أي أنّهم يكتفون بوضع النص العلمي ولا يجهدون في نقله إلى التطبيق.
ويشكو الجامعيون من لجوء الصناعيين إلى شراء التقنية بأسعار وشروط معقدة من بلدان الجوار على خلفية «الكنيسة القريبة ما تشفي» لغياب الثقة بإمكانات الباحث اللبناني في تحقيق اختراق لتطوير منتج صناعي.
في المقابل، لا يستطيع بعض الصناعيين أن يجاروا، كما يقولون، وتيرة العمل الجامعي، «فالأساتذة والطلاب يعملون ببطء شديد، فيما الوقت المخصص للبحث العلمي في الجامعات ليس كبيراً».
ومع ذلك، يُقر الطرفان بأن المشكلة الحقيقية ليست في الأبحاث العلمية ولا في الجامعات نفسها وما تخرّجه كليات الهندسة وإدارة الأعمال فيها من متخصصين في الهندسة الالكتروميكانيكية والكيميائية والإدارة المالية والتسويقية للشركات الصناعية، بل في السقف الذي لا يمكن للمتخرجين وللأبحاث اختراقه، لكون الأولوية الحالية في ظل السياسة الاقتصادية للدولة هي لاستمرار النموذج القائم لا لتطوير الانتاج من خلال تطوير المعرفة. التحديات الصناعية كثيرة من البنى التحتية (كهرباء، مياه، بريد، هاتف، إنترنت، الخ) مروراً بتأمين الضمان الاجتماعي للموظفين، وصولاً إلى انتفاء الحماية للصناعة اللبنانية.
التحدي بالنسبة إلى عميد كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية د. رفيق يونس هو استيعاب المتخرجين في القطاع الصناعي وليس المستوى التعليمي للمتخرجين، لكون التعليم العالي يخرّج كفاءات جاهزة لاستثمارها في تطوير الصناعة، لكن يبدو أن الصناعة غير جاهزة والتطوير ليس من أولويات الحكومات اللبنانية في هذه المرحلة. يستند يونس في ذلك إلى نسبة المتخرجين الذين تستقطبهم الأسواق العالمية لا سيما في الخليج وتبلغ نحو 70%، فيما يجد 15% من متخرجي الكلية عملاً في لبنان ويستكمل بين 10 و15% دراساتهم العليا في الخارج. الكلية استحدثت مكتباً للعلاقة بين الجامعة والقطاع الصناعي مهمته توفير التدريب للمهندسين في المصانع ابتداءً من السنة الثالثة، على أن تستضيف الجامعة معارض لصناعيين في سوق العمل. لكن الحل الأمثل، برأيه، هو أن يسمح للصناعيين بانتداب ممثلين عنهم للمشاركة في إدارة الجامعات. لا يخفى سعي الكلية إلى مزيد من التركيز على مواد تدريس غير هندسية تتعلق بتكوين شخصية المهندس وتوسيع مداركه في مجالات تخدم اختصاصه مثل البيئة والإدارة والقوانين.
ويسأل عميد كلية الهندسة في الجامعة الأميركية د. مكرم سويدان عن السبب الذي يدفع متخرجينا إلى البقاء في لبنان «إذا كان ما في مصانع ولا فرص وإذا بدو يفتح مصنع بدو يدفع برطيل». تنتج الجامعة، كما يقول، مهندسين كفوئين لا يبقى سوى 20% منهم في لبنان.
هي السياسة الاقتصادية للدولة التي دمرت الصناعة، بحسب الخبير الاقتصادي د. إيلي يشوعي. ويعلّق: «الجامعات باتت أهم شركات صناعية تصديرية، وبات الطالب يبحث سلفاً عن فرصة عمل في الخارج منذ السنة الجامعية الأولى ومن لا يسافر يصبح الأقل حظاً بين رفاقه إذ لم يتدبر أموره».
في السياق، يشير المدير العام لشركة فينيكس د. ربيع الأسطا إلى عدم قدرة الصناعة اللبنانية على خلق فرص عمل لكل المتخرجين، نظراً لغياب النمو في الصناعة لا سيما بعد 2011، بل إنّ مصانع عدة أقفلت خلال هذه الفترة، فضلاً عن عقبات الإعفاءات الضريبية والرسوم الجمركية ومشاكل الطاقة واليد العاملة. يعتقد الأسطا أن التمايز التفضيلي للبنانيين سيكون في الصناعات التي تعتمد على الابتكار والإبداع والتي لا تحتاج إلى طاقة ويد عاملة كثيفة مثل تصميم المولدات والمصاعد والمجوهرات والأزياء.
إذاً العلاقة بين الجامعات والصناعة ليست بديهية حتى الآن. الباحث والأستاذ الجامعي وطالب الدراسات العليا ليسوا في أساس تطوير العملية الصناعية، كما هي الحال في كل البلدان الأوروبية وبعض دول المغرب العربي ومصر.
نتائج «برنامج ليرة» الذي أطلقته جمعية الصناعيين اللبنانيين والجامعات اللبنانية والمجلس الوطني للبحوث العلمية منذ 17 عاما بقيت محدودة، وإن سمحت، بحسب منسقه العام سعيد حمادة، بالاستفادة من مشاريع التخرج والماجستير في كليات الهندسة لزيادة فرص تسويق المنتجات التي تعمل عليها الصناعة اللبنانية لا سيما في القطاعات الميكانيكية والالكتروميكانيكية والغذائية. لكن حمادة يتحدث عن هوة بين المتخرجين واحتياجات القطاع الصناعي. إذ لا يمكن، كما يقول، دخول عصر انفتاح الأسواق بمختبرات جامعية مرّ عليها الزمن ومن دون أن تنفق الحكومة على التعليم عبر إجراء تعديلات على المناهج الجامعية وتحديث المختبرات البحثية والاستثمار بالمعرفة، باعتبار أنّ أي صناعة تبعد عن المعرفة تحكم على نفسها بالموت.
«الحاجة ماسة لبناء شراكة علمية برعاية الدولة»، يقول الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية د. معين حمزة. مطلوب، برأيه، وضع سياسة تحفّز العلميين والصناعيين على حد سواء «إذ لا مفر من خفض الرسوم على المصانع، على الأقل تلك التي تستثمر في البحث العلمي وتستفيد من خبرات الموارد البشرية اللبنانية». لا يعفي الرجل الجامعات من المسؤولية، لا سيما أن غالبيتها تأخذ في الاعتبار عند ترقية الأستاذ الجامعي أبحاثه المنشورة في المجلات العلمية المحكّمة ونادراً ما تراعي معيار خدمة قطاع إنتاجي معين. يتلمس حمزة ما أنجزه البحث على صعيد بعض الصناعات الالكتروميكانيكية والغذائية إن في قطاع الألبان والأجبان أو النبيذ أو زيت الزيتون أو المعلبات المحفوظة التي انفتحت أمامها أسواق العالم العربي والأسواق الأوروبية. في المقابل لم تبن أي علاقة بين الباحثين والصناعيين في مجال الصناعة الدوائية أي تصنيع وتعليب مواد في شركات أجنبية كبرى تحتكر السوق العالمي. يبدو مقتنعاً بأنّ براءات الاختراع ليست مؤشراً إلى شيء إذا لم تجد من يتبناها ويشتريها ويدفع كلفتها بالكامل ويحوّلها إلى منتجات.