بعد عشرين عاماً على انطلاق مرحلة إعادة الاعمار، كان من المتفرض أن يأتي يوم الصناعة اللبنانية في زمن تزدهر فيه الصناعة، كحصّة في الاقتصاد ومحرك اساسي للنمو الاقتصادي وخلق الوظائف ومكان اساسي للتشابك بين التقدم التعليمي والاقتصاد. إلا أن الواقع اليوم هو عكس ذلك تماماً، فالصناعة في تراجع كبير ويتزايد تمركز الموارد الاقتصادية في القطاعات التجارية والخدماتية ذات الانتاجية المنخفضة، ما جعل الاقتصاد اللبناني راكداً لا ينتج الوظائف الضرورية لأبنائه ويؤدي إلى تزايد الهجرة وانخفاض الدخل المنتج محلياً وبالتالي تراجع مستوى معيشة اللبنانيين. أمام هذا الواقع يسأل الكثيرون، وبينهم الصناعيون، ماذا حصل؟ ولماذا؟ لا سيما أن الأزمة تأتي بعد كل هذه السنوات من الوعود البرّاقة حول الاعمار ودور لبنان الاقتصادي في المنطقة وإزدهاره المفترض. ففي هذه اللحظة الحاسمة في التطور الاقتصادي اللبناني يجب على الجميع التفكير بشكل عميق ونهائي حول العمل المطلوب، ليس فقط على صعيد تطبيق إجراءات لتشجيع الصناعة ومواءمة التعليم وسوق العمل واصلاح بيئة الاعمال وخفض كلفة الطاقة إلخ... فخفض كلفة الطاقة في الولايات المتحدة مثلا، الذي نتج اخيرا عن الخرق التكنولوجي ـــ الاقتصادي في مجال انتاج الغاز الطبيعي والنفط من التشكيلات الصخرية، ادى الى استعادة بعض مؤسساتها الصناعية التي فقدتها نتيجة سياسات ريغان الليبرالية ونتيجة بحث الرأسمال عن الربح خارج الولايات المتحدة وفي كازينو اسواق المال منذ ثمانيات القرن الماضي.
المهم هو تحديد ما يريده اللبنانيون. هل يريدون الاستمرار في ترك قوى السوق (المتفاعلة مع سياسات مالية ونقدية خاطئة ومع واقع اقتصاد إقليمي ريعي) تحدد مسار الاقتصاد اللبناني في المستقبل؟ ما يعني استمرار الحالة الاقتصادية على ما عليها الان. أم أنهم يريدون أن يتخذوا قراراً استراتيجياً مفصلياً في تحويل لبنان إلى بلد صناعي متقدم؟ وهذا القرار يأتي في ظل الأكتشافات النفطية المحتملة التي تهدد بتحويل لبنان إلى دولة ريعية خالصة تلعب الصناعة فيه دوراً هامشياً.
يتطلب الخيار الثاني أن تتدخل الدولة بشكل فعال عبر سياسة صناعية شبيهة بتلك التي أعتمدت في الدول التي حولت اقتصاداتها المتخلّفة إلى اقتصادات صناعية ككوريا الجنوبية، فقد بينت الدراسات إن التنمية الصناعية بحاجة إلى تدخل الدولة لفرض تغييرات بنيوية وديناميكية في تشكّل القطاعات الاقتصادية، وذلك عبر احداث صدمات إيجابية تؤدي إلى حلقات حميدة بين النمو الصناعي والانتاجية وتكسر حالات الركود في شكل توزيع الموارد الاقتصادية على القطاعات المنخفضة الانتاجية كالذي يحصل في لبنان الان. طبعاً المهمة ليست سهلة، فالاقتصاد اللبناني يرزح تحت ارث ثقيل من التفكير الاقتصادي الخاطئ الذي بدأ مع نظريات ميشال شيحا حول الخصوصية اللبنانية وأصل الثروة الشبيه بالنظريات الاقتصادية لما قبل آدم سميث. هذا التفكير أعيد تجديده بعد نهاية الحرب الاهلية متخذاً شكل النيوليبرالية التي سيطرت عليه آنذاك. وكما يعلم الكثيرون فقد كان لهذا التفكير الاقتصادي والسياسات المنبثقة عنه التأثير الأكبر على مسار الاقتصاد اللبناني بعد الحرب، اذ أضاع فرصة كبيرة في تطوير اقتصاد صناعي منتج ولم يتم استغلال الوضع الجيد نسبياً للصناعة اللبنانية (التي شهدت نمواً حتى خلال الحرب في الثمانيات نتيجة انخفاض سعر العملة). علما ان بعض القطاعات الصناعية الأكثر نمواً في عام 1994 (الاغذية، الالبسة، الأخشاب والمفروشات، المعادن والمنتجات الكيميائية) كان شبيها بقطاعات النمو الصناعي في منطقة ما سمي بـ»ايطاليا الثالثة»، وهي المنطقة التي أحدثت الانبعاث الاقتصادي لأيطاليا منذ ثمانينات القرن الماضي. بدلاً من ذلك تم بناء أقتصاد خدماتي ـــ ريعي أعتمد في الفترة الاولى حتى عام 1998 على الفورة الاستهلاكية الناتجة من تثبيت سعر الصرف وعلى المشاريع الاعمارية التي لم تستكمل، ثم اعتمد على المساعدات الخارجية منذ باريس ــ 2 بعد ازمة 1998-2000 الركودية، ثم اعتمد على الفورة العقارية وتدفق روؤس الأموال بعد عام 2007، وقد أدى كل هذا إلى الوضع المأزوم حالياً في القطاع الصناعي وهجرة الشباب وعدم خلق الوظائف والركود الاقتصادي وتفاوت الدخل وأنهيار الخدمات العامة والبنى التحتية.
في يوم الصناعة اللبنانية، وفي الذكرى العشرين لبدء عملية اعادة الاعمار، على اللبنانيين ان يعيدوا النظر بكل ما انتجته هذه المرحلة، وخصوصاً على مستوى الفكر الاقتصادي الذي أصبح بائداً، وعليهم ألّا ينخدعوا بعد اليوم بشعارات «الجنة الضرائبية» و«سوليدير» و«مستشفى الشرق الاوسط» و«الجنة العقارية» و»المبادرة الفردية» و»الخليوي نفط لبنان» والآن «نفط لبنان» وهو اخر شعار استعمل بديماغوجية وشعبوية في الاعلانات التي انتشرت على الطرقات لنشر أوهام جديدة لدى الشعب اللبناني للاعتماد على مصدر ريعي جديد لم يتم التأكد منه بعد ولا من جدواه الاقتصادية. نحن امام مفترق طرق وعلينا أن نأخذ الطريق الأكثر وعورةً نحو التقدم والازدهار وهو الطريق الذي لم نأخذه حتى الآن.