يتساءل المرء دوماً عن سرّ مراكمة الأموال ومضاعفتها. يركن الطَّموح الخائب إلى ثنائية «الخير والشر» لتبرير محتوى خزنات يدفق منها الذهب. يُفضّل آخر اللجوء إلى حكمة القدر لتعليل مليارات في قبضة قلّة. لكن الأكيد هو أنّ جمع الدولارات يُصبح أكثر سهولة نتيجة العولمة والتكنولوجيا.
هذا، بالحدّ الأدنى، ما يُمكن استنتاجه من تقرير «الأصل والميراث: تغير نظام تشكيل الثروة» الذي أعدّه قسم إدارة الثروات والاستثمار في مصرف «Barclays». لكن رغم هذه الخلاصة العامة، يبقى الميراث المصدر الأساسي للثروة كلما كان المجتمع متأخّراً.
بحسب المسح الذي يستند إليه تقرير المصرف البريطاني، الذي يشمل ستة مناطق من العالم، يبرز الشرق الأوسط على أنّه أعلى منطقة يعتمد فيها الأثرياء على الميراث لضمان الغنى المادّي. هنا يُفيد 49% من المستطلعة آراؤهم بأنّ مصدر ثروتهم هو الميراث – إلى جانب مصادر أخرى – ليبقى الميراث المصدر الأوّل لثروة الأغنياء الشرق أوسطيين. أما في الولايات المتّحدة، فتنخفض هذه النسبة إلى أدنى مستوى عالمي لها، حيث تبلغ 20%. مع العلم أن النسبة هي 21% في أوروبا، 33% في آسيا/ المحيط الهادئ لترتفع إلى 36% في كلّ من جنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية.
وهذا الاختلاف في توصيف أصل الأموال منطقي جداً. ففي الشرق الأوسط حيث الأنظمة الرأسمالية الأبوية واقتصادات «النفط لصالح القلّة»، عادة ما تغنم قلّة «أميريّة» بالثروة الوطنية؛ تعكس الأرقام هذا الوضع؛ إذ إنّ 75% من المستطلعة آراؤهم في الشرق الأوسط جمعوا أرباحهم في خلال أقل من 20 عاماً.
أما في الولايات المتّحدة، البلد الذي يتصدّر العالم في مجال التكنولوجيا، فتُعدّ المبادرة إلى الابتكار والأعمال المصدر الأول لجمع الملايين. ووفقاً للائحة أصحاب المليارات التي تعدّها مجلة «Forbes»، إنّ قطاع التكنولوجيا هو ثاني أكبر مصدر للثروات في الولايات المتّحدة؛ إذ إنّ بين 425 مليارديراً أميركياً، هناك 51 غنياً جمعوا ثروتهم من هذه الصناعة.
وبذكر اللائحة، يُشار إلى أنّ عائلتين لبنانيّتين فقط تبرزان عليها، هما آل الحريري وآل ميقاتي، بثروة إجمالية تبلغ 14 مليار دولار مقسّمة مناصفة بين الاثنين. اللافت هو أنّ أغنياء العائلة الأولى – وهم أربعة أشخاص – انطلقوا من ميراث دسم تركه الرئيس الراحل رفيق الحريري عام 2005، أما الميقاتيان، نجيب وطه، فجمعا ثروتهما من قطاع الاتصالات وعالم المال.
يعود التقرير إلى كتاب مالكوم كالدويل الشهير الصادر عام 2008، «Outliers»، ليُذكّرنا بأنّ من بين أغنى 75 شخصاً في التاريخ البشري، 14 ثرياً ولدوا في الولايات المتّحدة بين عامي 1831 و1840، أي في مرحلة انطلاق الثورة الصناعية والتحوّل التكنولوجي. استطاع هؤلاء، ومن بينهم جون روكفيلر وأندرو كارنغي، سلوك مسار تحوّل صوب بناء سكك الحديد، التصنيع وتأسيس الأسواق المالية. تغيّرت الأحوال في أوقاتنا هذه على مستوى مراكمة الثروات على نطاق هائل ومصادر توليدها. ولكن لا شكّ في أنّ قوتي العولمة والتكنولوجيا أدّتا إلى «انفجار قوّة المبادرة حول العالم مع تراجع الميراث كمحدّد للثروة المستقبلية».
وفقاً لما ينقله التقرير عن الاقتصادي إيمانويل سايز، «تُظهر الدلائل أنّ أكبر الرواتب حالياً ليست لمصلحة الريعيين الذين يجمعون ثرواتهم من الميراث، بل لمصلحة الأغنياء العاملين، وهم الموظفون أصحاب الرواتب العليا والمبادرون الجدد».
ويُبدي أصحاب الثروات في الشرق الأوسط ثقة متزايدة حيال إمكان التنمية السريعة لثرواتهم مقارنة مع أثرياء الأسواق الأخرى حول العالم؛ إذ يرى 60% من أثرياء المنطقة أن هناك إمكانية اليوم لتجميع الثروة أسرع من السابق، مقارنة بنسبة 43% في أوروبا و31% في أميركا الشمالية.
من جهة أخرى، يبدو أنّ الأزمات المالية تُمثّل فرصة ثمينة لتغذية الخزنات والاستثمارات والحسابات المصرفية للأثرياء. يوافق على هذا التوصيف نصف المستطلعة آراؤهم في الشرق الأوسط، مقارنة بنسبة 45% عالمياً.
وعموماً، يُفيد التقرير بأنّ العديد من أثرياء العالم حالياً يفضلون تقديم أموالهم للعائلة والأصدقاء والأعمال الخيرية في حياتهم بدلاً من توريثها؛ إذ يرون ثرواتهم كأداة «تمكين». وفي منطقة الشرق الأوسط يخطّط 19% من المستطلعة آراؤهم لوهب كامل ثرواتهم للعائلة والأصدقاء والجهات الخيرية خلال حياتهم، مقارنة مع 5% فقط في المملكة المتحدة و4% في الولايات المتحدة الأميركية.
وإلى مسألة الميراث يتطرق التقرير إلى اهتمام الأغنياء بالأعمال الخيرية. ويخلص إلى أنّ 65% من أثرياء الشرق الأوسط يعربون عن نيتهم تقديم المال للجهات الخيرية من «الشعور بالواجب والمسؤولية»، ويذكر 60% أن «الدين» هو الدافع إلى هذا السلوك (المجموع يتخطّى عتبة 100%؛ لأنّ الاستطلاع يجيز الإجابة بأكثر من خيار عن كلّ سؤال).
وشمل المسح الذي استند إليه التقرير أكثر من ألفي شخص من «أصحاب الثروات الكبيرة» في 17 بلداً. جميعهم تفوق ثروتهم 1.5 مليون دولار، و200 منهم يتمتعون بثروة تفوق 15 مليون دولار.