نيال اللي بيرجع عشية

الموسيقى الجنائزية الحزينة التي تنساب عادة من امام المستشفى العسكري بالقرب من منزلي كلما يكون هناك تشييع لشهيد من الجيش اللبناني، تكاد تكون الموسيقى التصويرية التي رافقت العرض المباشر «ليوم الاسير» الطويل والحزين في صيدا.

منذ الصباح.. تكرر وداع للشهداء، العيون مثبته على الشاشات، وكلما سمعت إعادة للحن الجنائزي في الخارج، علمت أن شهيداً جديداً سقط. لم أكد اصدّق العدد. ولو اني اعلم ان الفرقة الموسيقية للجيش كانت تعزف عزفا حياً، لدى اخراج الشهداء الى سيارات الاسعاف التي اقلتهم الى بيوتهم في قراهم البعيدة. الى رميش الى الهرمل الى جبل محسن الى عكار الى الجبل الى المنية الى كل مكان.. كانت المواكب تخرج. الجيران وقفوا كل على شرفته، بوجوه مكفهرّة يراقبون الموكب الحزين المتكرر، ويمسكون قلوبهم بأيديهم خوفاً من اسم احد الاحباب يذكر في متن خبر عاجل.
لم يتصور احد هذه النهاية الدراماتيكية للشيخ الكوميدي برغم خطابه الفتنوي الشعبوي. لم يتصور احد ان تنزيل حمار عن المئذنة، حرفيا، سيكلف كل هذا الدم. ولكن؟ من أطلعه بالأصل الى هناك؟ من تغاضى عما كان يفعله؟ من ضحك منا لكلامه؟ من صفق؟ من تماهى معه؟ كلنا مذنبون. انها لعنة المقدس في هذا البلد. احصوا فقط بيانات الجيش التي كُرست فقط للتوضيح بأن الجيش لم يستهدف جامعا، تبين فيما بعدُ انه قلعة عسكرية مفخخة. انصتوا الى الأخبار التي ذكرت ان اشخاصا خرجوا بالنقاب وهربوا على انهم نساء لعدم تجرؤ احد على تفتيش منقبة. وقبل كل ذلك، كيف نجح الأسير أصلاً، في صعوده السريع ونجاحه المنقطع النظير في «شغلة» المشيخة، بعدما كان قد جرب حظه في «7 صنايع والبخت ضايع»؟ الجواب: العمامة المقدسة. كثير من الراسبين في مدارس الحياة والمجتمع، اكتشفوا «عدة شغل» جديدة: عدة شغل مكونة فقط من لحية وعمامة او نقاب او صليب الخ.. من رموز التدين، تؤمّن لهم هالة من القداسة. بالمختصر حماية لا مثيل لها في لبنان. فإذا توفر لك ممول؟ تكون قد عثرت على وظيفة بحصانة كاملة من دون تكلف عناء خوض انتخابات ما.
كل ما هو مقدس في هذا البلد، مخيف. من يجرؤ على اعتراض ميكروفونات الجوامع المزعجة آناء الليل والنهار؟ من يجرؤ على الاحتجاج على سائق سرفيس رفع صوت «اللطمية» على آخرها، كنوع من التحدي؟ المقدس في هذا البلد مخيف بقدرته على التحول الى ما شاءته الظروف وحماية اي شيء يختبئ خلف عباءته. هو ايضا الخوف من التعدي على طائفة اخرى، الخوف من ان «يفهمونا» (هنّي دائماً) غلط، في بلد نخره الفساد باسم احترام الطوائف لا الاديان، الاكليروس لا النبي، الهيكل لا ربه.
تتكرر الموسيقى الجنائزية.. يا الهي ما هذه الكلفة العالية للخوف من الطوائف ومافيات السلطة! ثمن الانتظار قبل الحسم. لو رفع نبيه بري الحصانة عن معين المرعبي وخالد الضاهر فهل كان ليحصل ما حصل؟ ولكن كيف يفعل وتركة الحرب لم تُصفّ بعد وامراء الحرب الاهلية لم يحاسبوا؟
لو تمكن القضاء من محاكمة «نواب الأمة» مثيري الفتن والضغائن المذهبية، هل كانت باب التبانة ستتقاتل مع جبل محسن؟ لو احس الناس بالعدالة علي الاقل في الاقتصاص وتطبيق القانون هل كان اي مواطن ليجرؤ على ايقاف السير كما حصل على طريق عرسال الجمعة الماضية، وانزال ركاب الفانات لـ«يفحصوهم» فإذا كانوا من عرسال يبرَّحون ضربا، او من اللبوة فيوصلونهم الى بيوتهم على اساس انهم «مننا»؟ صديقتان لي من عرسال روتا كيف احتجزت احداهما اسبوعا في البلدة خوفا من الطرقات، وكيف ان صديقة لها لم تجرؤ على القول انها من عرسال، فقال لها المسلحون «لشو خايفة.. اذا من اللبوة نحنا منوصلك على باب بيتك». يا الهي!
أنظر الى سحل الشيعة في مصر واتذكر مسكننا في طرابلس. هل كان ليحصل هذا لأهلي في المدينة التي ترعرعرنا فيها حتى اصبحنا منها وهي منا؟ فقط لأنهم «شيعة؟» هل كانت صديقتي لتتبهدل وتهان على حواجز الملثمين فقط لأنها سنية؟ هل سيصبح علينا حمل هويات مزيفة لنصل الى اعمالنا ونعود الي بيوتنا آمنين، تماما كما كان الاهل يفعلون خلال الحرب الاهلية التي لم تنته؟
كل ما أعرفه الأن، انه كان يوما حزينا، وأننا كلنا، في السلطة او في الشارع.. مسؤولون.
ما أعرفه ايضا، هذه الجملة الوحيدة التي تتردد في قلبي منذ ذلك اليوم من اغنية لفيروز: «قالولي البلابل صبحية/ هالحقول وساع/ والدني بتساع/ نيال اللي بيرجع عشية».

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 7/5/2013 9:16:02 AM

"تسمّع عَ الموسيقى، موسيقى، لاحق تروح، لاحق ترووووح، لاحق تروووح،،،"

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول مجهول - 7/2/2013 8:48:14 AM

لا اصدق اننا في بلد الطوائف هذه .. نحن بلد عالم ثالث ينسوننا الغرب وقت ما يريدون لنقبر بعضنا بعضا ويتذكرونا عندما يريدون بعد ان مقبر بعضنا.. ايه شو عبيه منستاهل بعدنا عم نحكي سني شيعي درزي مسيحي... عم يشغلونا ببعضنا حتى يبعدونا بطويفنا عنن باحتقارنا لذاتنا عنن بلعنتنا عنع تهني يضلن راقيين ونحنا الهوج .. الله يرحم الجيش اللي ماتوا فدى هالسياسية المعفنين والاتي اعظم

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

عربي واقعي عربي واقعي - 7/1/2013 4:41:51 AM

كما يقول العنوان: أنا لست لبنانياً، و لكني أحسست بمدى عمق الجرح و شدة الوجع! رائعة أنت يا ضحى و أنت توصلين معاناة الأكثرية الصامتة بكل بساطة؛ لأنك تنتمين للناس، لذا أنت تعرفين ما الذي يؤلمهم.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

Tima Tima - 7/1/2013 4:14:16 AM

سيدة ضحى ما جاء في مقالتك مؤلم جدا, فليس من المعقول بعد الحروب التي مرت على اللبنانيين لا يزالون يفكرون أن زعماء المذاهب والطوائف ومجرمي الحرب هم زعماء يجب السير وراء خرافاتهم ,,, للاسف اليوم الاقتتال بين السنة والشيعة , ولكن اذا استمرت الاحوال على هذه الحال لا تستبعدي أن يتم الاقتتال بين العائلات يعني العودة الى النظام القبلي - العشائري ,,, فالدولة غائبة وشريعة الغاب هي السائدة ,,, شكرا على هذه المقالة التي تعبر عن الواقع بشكل جارح..

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/30/2013 2:06:05 AM

تتمنى وانت تقرأ لضحى شمس ان يكون لديك قدرة قادر وتخلق لها بلد يناسبها ويناسب غيرها من اللبنانين واللبنانيات الذين قضوا حيوات طويلة وهم يدافعون عن الاهداف النبيلة نفسها ، بوطن يحفظ حقوق مواطنيه وحرية للجميع ، لكننا ننسى كل مرة ضحى شمس والقيمة التي تمثلها ، وعمرنا ينقضي على الاسير وتمظراته .. لارواح جنود الجيش شموع لا تنطفيء

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 7/1/2013 6:24:23 PM

الي أمجد هادي : الناس مثلك موطني مودتي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم