واشنطن | عقب إطاحة الرئيس الإخواني، محمد مرسي، عهد البيت الأبيض إلى وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل، بأن يكون قناة الاتصال الرئيسية بين الحكومة الأميركية وقيادة الجيش المصري، التي تمسك حالياً بزمام الأمور في مصر. ويرى طاقم السياسة الخارجية والأمن القومي في البيت الأبيض أن وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي بمثابة نقطة الارتكاز في مصر، خاصة وأن العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة ومصر التي تعززت منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد في عام 1979، قد أسفرت عن إدخال تغييرات جوهرية في بنية القوات المسلحة المصرية وتوجهاتها وعقيدتها العسكرية وخططها الاستراتيجية من خلال برامج التدريب والتسليح الأميركية والمناورات العسكرية المشتركة السنوية. ويرى خبراء أن العلاقة الخاصة التي تربط الولايات المتحدة بالجيش المصري هي التي تفسر تردد البيت الأبيض بإعلان موقف صريح إزاء إطاحة الرئيس مرسي وتجنب وصف ذلك بانقلاب عسكري خلافاً للمواقف التي أعلنها العديد من أعضاء الكونغرس الأميركي.
أميركا تغير بنية الجيش المصري وتوجهاته
تكشف الدراسة الميدانية غير المنشورة حول القوات المسلحة المصرية وعلاقات التعاون العسكري الأميركي ــ المصري التي وضعها كينيث بولاك، المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ومدير قسم الخليج في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، مدى التخريب الذي مارسته الولايات المتحدة في كل فروع القوات المسلحة المصرية من خلال مستشاريها العسكريين والسياسيين منذ أن قرر الرئيس المصري أنور السادات، الذي اغتيل في 6 تشرين الأول 1981 على منصة العرض العسكري، في عام 1979 الانتقال بمصر كلياً إلى صف الولايات المتحدة ووضعها في خدمة الاستراتيجية الأميركية ــ الإسرائيلية في المنطقة.
وقد أعد بولاك دراسته بعنوان «أبو الهول والنسر: القوات المسلحة المصرية والعلاقات العسكرية الأميركية المصرية» قبل عدة سنوات، استنادا إلى وثائق أميركية ومقابلات ميدانية مع ضباط مصريين وأميركيين كبار يؤكدون فيها حدوث تحول وانقلاب كامل في العقيدة العسكرية للجيش المصري ومهامه واستراتيجيته ومجمل خططه التي تقوم على اعتبار أن إسرائيل لا تشكل تهديدا له، كما لم تعد بالنسبة له هدفاً.
وقال بولاك إن الولايات المتحدة أرسلت في الفترة من 1990 إلى 1991 فريقا من خبراء البنتاغون لدراسة الجيش المصري من القمة إلى القاعدة وتقديم توصيات إلى الحكومة المصرية حول حاجته من المشتريات العسكرية وهيكلية الجيش. وكان أول طلب تقدم به الفريق الأميركي هو إعداد خطة معركة متكاملة، وهو ما لم تستجب له قيادة الجيش المصري نظراً لأنه لم يسبق لهم إعداد ذلك، كما أن فهم القيادة العسكرية المصرية العليا للقوات المصرية كان خاطئاً أو غير مكتمل في عديد المجالات. وقال بولاك في حديث خاص معه إن ما جاء في دراسته لا يزال ينطبق على حالة الجيش المصري حاليا، مشيرا إلى أن ما يهم الولايات المتحدة حول قدرات الجيش المصري هو أربعة أمور أبرزها، الكيفية التي يكون فيها الجيش المصري جزءاً من استراتيجية الأمن القومي المصري: ما هي التهديدات التي تواجهها مصر، وكيفية استخدام الحكومة المصرية القوات المسلحة لمواجهة هذه التهديدات والوسائل التي سيتم تبنيها لاستخدام الجيش كأداة لسياستها الخارجية.
ويخلص بولاك في دراسته إلى أن عدم الشعور داخل الجيش المصري بوجود تهديد مباشر قد أدى إلى انتشار الفساد داخل قياداته العليا.
وتشير تقارير عديدة إلى أن دور واشنطن في تسليح الجيش المصري وتعزيز صناعاته العسكرية على مدى العقود الثلاثة الماضية عامل رئيسي في تحديد كيفية تعامل الجيش مع إطاحة الرئيس المخلوع حسني مبارك في 11 شباط الماضي.
وتعتبر صناعة الأسلحة في مصر الأقدم والأوسع والأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية في الوطن العربي. ويتم تمويل المؤسسة العسكرية، التي تملك حصصاً اقتصادية كبيرة، من خلال مساعدات عسكرية أميركية سنوية بقيمة 1.3 مليار دولار.
وطبقاً لما ذكره باحثون واقتصاديون مصريون، فقد بدأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية فور توليه السلطة عقب إطاحة مبارك، باتخاذ خطوات لحماية امتيازات اقتصاده المغلق، الذي لا يدفع من خلاله الضرائب ويشتري الأراضي العامة بشروط ملائمة ولا يكشف شيئاً عنه في البرلمان أو إلى العامة، ما يعيق التغييرات المرجوّة نحو اقتصاد مفتوح.
ويقول الخبير في شؤون الجيش المصري في الكلية البحرية الأميركية للدراسات العليا، روبرت سبرينغبورغ، إن حماية أعماله من التدقيق والمحاسبة هو خط أحمر سيرسمه الجيش (المصري)، وهذا يعني أنه لا يوجد إمكانية لمراقبة مدنية مجدية (لهذه الأعمال). وقد سعى جنرالات المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى تثبيت ذلك قبل عقد الانتخابات التشريعية والرئاسية التي انبثق عنها تشكيل حكومة جديدة استهدفت ضمان استمرار رضا الولايات المتحدة. وقد أكدت نصوص الدستور المصري، الذي أشرفت على وضعه حكومة مرسي، على منح الجيش المصري ما وصف بـ«حكم ذاتي» فلا أحد يتدخل في ميزانياته.
ويعتقد محللون غربيون أن «الإمبراطورية العسكرية» في مصر تشكل أكثر من ثلث الاقتصاد المصري، فيما يخشى اقتصاديون مصريون أن يعيق الجيش مواصلة التحول من اقتصاد تسيطر عليه الدولة الذي بدأ في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلى اقتصاد أكثر انفتاحاً تطور في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. وقال مدير البحث الاقتصادي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عبد الفتاح الجبالي إن «الناس يظنون بأن الليبرالية تخلق الفساد، وأظن اننا سنعود للاشتراكية ليس بشكل تام بل ربما نصفي».
ويصل عدد أفراد القوات المسلحة المصرية إلى نحو 500 ألف جندي نظامي إلى جانب نحو 450 ألفاً من الاحتياط، وهي مجهزة بنظم تسلح أميركية، تعطي واشنطن نفوذاً كبيراً على الجيش المصري وغيره من المؤسسات المهمة.
ولم توقف قيادة «البنتاغون» اتصالاتها مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة منذ أن كان برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي ورئيس الأركان (السابق) الفريق سامي عنان، اللذين طمأنا الولايات المتحدة وإسرائيل لجهة التزام مصر بمعاهدة كامب ديفيد، التي تعتبر حجر الزاوية لإستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة. وهو ما أكده أيضا القائد العام للجيش المصري الحالي الفريق السيسي.
وقد تلقت مصر منذ عام 1979 نحو 68 مليار دولار من المساعدات الأميركية بلغت الحصة العسكرية منها نحو 40 مليار دولار، مما جعل مصر ثاني أكبر متلق لمساعدات من هذا القبيل بعد إسرائيل. ويجري إنفاق نحو 30 في المئة من المساعدة العسكرية الأميركية على أنظمة أسلحة جديدة بما يضمن الاستبدال التدريجي لمنظومة الأسلحة السوفياتية التي كانت بحوزة الجيش المصري باسلحة أميركية.
وطبقا لتقرير لهيئة خدمات أبحاث الكونغرس الأميركي، فإن المساعدة العسكرية الأميركية لمصر تشكل ثلث ميزانيتها الدفاعية التي تبلغ حوالي 5 مليارات دولار.
ويقول باحثون وخبراء ومسؤولون عسكريون أميركيون سابقون إن المساعدات العسكرية الأميركية السنوية للجيش المصري ساهمت في تعزيز بيروقراطية عسكرية في مصر أسفرت عن خلق شبكة من الصفقات الداخلية والفساد في الجيش. وتدفع وزارة الدفاع الأميركية معظم الأموال مباشرة للشركات الأميركية التي تزود الجيش المصري بالأسلحة والطائرات والسفن وغيرها.
ويقول معارضون مصريون إن الرئيس المخلوع حسني مبارك وجنرالات كباراً تمكنوا من تحويل الأموال، على الرغم من إصرار المسؤولين الأميركيين على أنه لا يمكن سرقة هذا المال. لكن لا أحد يعلم كيف تستخدم السلع التي يحصل عليها الجيش بعد وصولها إلى مصر.
ومن بين الأمثلة على ذلك مستشفى عسكري مولته الولايات المتحدة في بداية التسعينيات، وقد حوله الجيش إلى مستشفى فخم لاستقبال المدنيين والأجانب وكسب المال. كما استخدم الجيش سرباً من الطائرات النفاثة التي حصل عليها من أميركا للسفر المترف.
ويقول الجنرال المتقاعد في سلاح الجو الأميركي، مايكل كولينغز، الذي كان الملحق العسكري ومدير مكتب التعاون العسكري ــ الأميركي في القاهرة بين عامي 2006 و2008، إنه قلق من تفشي الفساد في المراتب العليا في الجيش المصري، مشيراً إلى أن الأميركيين لم يستطيعوا تتبع الأرباح، التي تحققها المصانع التي يديرها الجيش، وقال إنه يعتقد أن الشعب المصري يستحق أفضل من ذلك.
وأوضح انه حين كان في مصر أخبره القادة العسكريون عن خطة يوزع بموجبها مبارك الأموال على قادة الأفرع المختلفة في الجيش من بحرية وقوات جوية وقوات دفاعية. وقد أكد مسؤول سابق في الجيش المصري تصريحات كولينغز.



برامج الدعم والمصالح الأميركية

يرى البيت الابيض والسياسيون الأميركيون، أن أي وقف للمساعدات الأميركية لمصر من شأنه أن يعرض المصالح الأميركية في مصر والمنطقة إلى التهديد. وقد أوضح المتحدث باسم البيت الابيض، جاي كارني ذلك بقوله «نعتقد انه ليس من مصلحة الولايات المتحدة الاقدام على تغيير برامج الدعم في هذه المرحلة»، نافيا وقف المساعدات في المدى القريب. وقال «اذ نعتقد ان ذاك الاجراء لا يصب في خدمة مصالحنا بالشكل الافضل». وفي أساس هذه المصالح، الإبقاء على التزام مصر بمعاهدة كامب ديفيد.
وقالت مؤسسة راند ذات العلاقة الوثيقة بالبنتاغون إن «المنطق الرشيد يكمن في كون المساعدات تصب في خدمة الاعتبارات الاستراتيجية الحقيقية» للولايات المتحدة. وأوضحت أن المساعدات الاميركية لا تمثل سوى 1 في المئة من مجمل الاقتصاد المصري، مقارنة بنسبة 7 في المئة كانت تمثلها في العام 1986، فضلا عن ان نحو 80 في المئة من مجمل المساعدات هي عسكرية بطبيعتها وتذهب لشراء معدات أميركية من شركات تنتج المدرعات والطائرات المقاتلة والمروحية.



إضاءة | الشركات الأميركية المستفيد الأول

تشترط الولايات المتحدة على مصر أن تنفق الأموال الأميركية على معدات وخدمات أميركية، وبالتالي تصبح مصدر دعم فعال للشركات الأميركية. وتقيم شركات «لوكهيد مارتن» و«بوينغ» و«جنرال إلكتريك» و«رايثيون» و«جنرال دايناميكس» و«بي ايه اي سيستمز» صفقات تجارية كبرى مع القاهرة من خلال بيع طائرات مقاتلة ودبابات وأجهزة رادار ومدفعية وغيرها من المعدات العسكرية إلى مصر.
وتلقت شركة «لوكهيد مارتن» في عام 2010 نحو 213 مليون دولار لقاء دفعة جديدة من 20 طائرة أف 16 لسلاح الجو المصري، الذي يملك حوالي 180 من المقاتلات الأميركية، وهذا يجعل من مصر رابع أكبر مشغّل لطائرات أف 16.
كما حققت شركة «لوكهيد مارتن» أرباحاً تقدّر بـ 3.8 مليارات دولار من بيع طائرات أف 16 ومبيعات أخرى إلى مصر. فيما كسبت شركة «بوينغ»، التي تبيع القاهرة مروحيات نقل من طراز شينوك ــ 47 ما يقدر بـ1.7 مليار دولار.
وحققت «جنرال دايناميكس لاند» 2.5 مليار دولار من خلال حصولها في عام 1988 على ترخيص لإنتاج دبابات «أبرامز أم 1 أي 1» في مصر، حيث ينص الاتفاق على إنتاج 1200 دبابة من نوع «أبرامز» في مصانع في ضواحي القاهرة، بحيث يجري إنتاج الجزء الأكبر من مكوناتها في مصر (40 في المئة) دعما لفرص العمل، فيما يجري تصنيع ما تبقى من مكونات في الولايات المتحدة ويجري شحنها إلى مصر للتجميع النهائي للدبابة.
في المقابل، قامت الشركات المملوكة للدولة التي يسيطر عليها الجيش والهيئة الوطنية للإنتاج الحربي بتصنيع الأسلحة الخفيفة والذخائر لجميع الأسلحة والمدفعية والصواريخ ومعدات الاتصالات.
ومن الثابت ان معظم برامج المساعدات الاميركية المقدمة لمصر تذهب لتمويل الاسلحة والمعدات العسكرية، التي تنتجها الشركات الاميركية، بينما يذهب جزء ضئيل بالمقارنة الى قطاع التنمية الاقتصادية، ومنها المشاريع التي تسيطر عليها القوات المسلحة، التي تشغل عمالًا لانتاج مدرعات «أم ــ 1»، فضلا عن تطوير صناعة داخلية للمدرعات قد تضعها في مصاف السوق العالمي في المستقبل.