ذاكرتي الانطباعيّة كائن متكامل مستمرّ في زمن واحد رغم تواليه. لا شيء هنا يهرم. يحضرني الجميع، حين أذكرهم، في أوّل لحظة لقاء. لحظة متجمّدة إلى الأبد.
فيروز مفاجأة المفاجآت، في السابعة والعشرين من العمر، واصلة إلى باب مكتب الأخوين رحباني في بدارو وأنا على العتبة متأهّب للانصراف. وعاصي يقول: «أُعرّفك على فيروز».
هبطَتْ عليّ السماء سَحَبَتني السماء. لم أعرف كيف مددتُ يدي للسلام. رأيتُ فيروز أجمل ممّا أطلّت في «جسر القمر». فيروز، مروّضة الأمزجة، «سلطانة الأغنية القصيرة» كما لقّبها محمد عبد الوهاب، تجلّت كفتاة أوّل طلعتها. فيروز العمر. ولا تزال في السابعة والعشرين. عاصي ومنصور فتيا الفن والبلد الأغرّان. الواقفان خلف كل الأبواب السريّة. صانعا أجمل لبنان بصوت فيروز. هدى حدّاد ونضارة حلاوتها الشفّافة. سعيد عقل وهو يستوقفني _ على الباب ذاته في مكتب الرحبانيّين، بعد ذلك بأسبوع، ساعة يشرح لي خلالها قصّته مع الحرف اللاتيني. فؤاد حبيش في «المكشوف» يمازح جورج مصروعة بلغته الكسروانيّة العارية. يوسف الخال في «نهار» سوق الطويلة يفاتحني صوته التوراتي بمشروع مجلّة «شعر». أدونيس وخالدة سعيد آتيان من دمشق، هو في عزّ إشراقه وهي في فجر جمالها ونبوغها. فؤاد حدّاد (أبو الحنّ) صوت البن والتبغ. شوقي أبي شقرا نازلاً من بيت شباب حيث كان يعلّم ليزورني أسبوعيّاً ويعطيني للنشر صفحة جديدة من أوراقه «قشّات». عصام محفوظ خطوة إلى الخارج خطوة إلى الداخل. محمد الماغوط ولا تجعيدة على أصالته. ليلى بعلبكي وعاصفتها. لور غريّب سخاء الصداقة.
وأيضاً:
حليم بركات كأنّه الآن. فؤاد رفقه الحكايات المالحة عن خدمته العسكريّة في سوريا. يوسف حبشي الأشقر متردّداً بين شعر (حرّ) وأقصوصة ورواية، ونقد يخترقها كلّها. فؤاد كنعان ولمعة عينيه. جورج شامي وبداياته الخلاصات. محمد العبد الله الطري. رشيد الضعيف الطريف المأساوي. هدى بركات المتدفّقة.
وأيضاً:
نصري شمس الدين جارك وخالك وفخر الدين أكثر من فخر الدين. ملحم بركات البركان والنعيم. إيلي شويري الفنّان الجريح. مروان محفوظ صوت العنب والتين والزيتون. زياد الرحباني الأخوان رحباني بلا قناع. عبد الحليم كركلّا إذا أحبَّك أشعركَ أنّك محبوب الجميع. فريد سلمان لا تُرِهِ ضعفك. محمود درويش لا تُرِهِ غيرتك منه. سميح القاسم العفوي. نزار قبّاني الأجمل من جميلاته. سهيل إدريس الوجودي البيروتي. ألبير أديب المولّد الأوّل للشعر الحديث. هدى أديب الشاعرة المأكولة الحقّ. يوسف بزّي القنبلة الغرّاء. يحيى جابر ضائع بيروت. أحمد بيضون الشاعر الغافل عن التوقيع. هنري حاماتي الضمير المغدور. أسعد أبو خليل الفوضوي لحسن الحظّ. يوسف إبراهيم يزبك الحيويّة المنبوشة الشَعْر. ميشال طراد البلبل حتّى بعينيه. نزيه خاطر الشكّ مفتاح الفَرَج.
وأيضاً، ودائماً دون اعتبارٍ لتسلسل تاريخي أو تقييميّ: كامل مروّة العطوف والمعلّم. غسّان تويني الهيبة والظلال. ناديا تويني تقرأ لي بالفرنسيّة قصائد مقفّاة وتختبئ وراء نسبتها إلى صديقة. منير أبو دبس في عتماته وأنصاف عتماته. ريمون ومنى جبارة أطيب مَن عرفت. أنطوان كرباج «الملك يموت» على طول. رضى خوري بلاغة التمثيل والحرص على الأصحاب.
وأيضاً:
شارل مالك بداية معرفة بقلّة تهذيب منّي وبعدها بسنين أقنعتُه بنشر «المقدمة». رونيه حبشي البصير الرائد. ميشال أسمر الأبوي الفسيح الصدر صاحب الصورة المثاليّة عن لبنان. رونيه أسمر هربوز، ابنته، الصديقة الحبيبة العميقة الخلّاقة. نضال الأشقر الأولى، التي ما زالت أُولى، الفتنة المدهشة، المسرح الطاغية. فؤاد نعيم الطويل العريق الماحي نفسه خلف الآخرين. روجيه عسّاف القدّيس. جلال خوري الرائد.
أنطوان ولطيفة ملتقى الملاكان المقتحمان. وليد غلميّة الغَلَيان. بول غيراغوسيان الفنّان الفيلسوف الضائق ذرعاً بالتافهين. رفيق شرف الحاضر الطفولة. منير نجم العاطفي. سعيد الياس عقل الداخلي بلا كَلَل. عارف الريّس المودرن بلا ضفاف. ميشال بصبوص وأخواه، ميشال الأطهر بين الطاهرين. جان خليفه الموهوب والغاضب والمعطاء. محمود الزيباوي جالساً وهو في العشرينات من عمره واثقاً من نفسه كأنّه بيكاسو. عبده وازن في ملقانا الأوّل قبل ثلث قرن وأكثر مذهلاً إيّاي بنضجه المبكر على سعة معرفة وموهبة شعريّة ونقدية نادرة. عقل العويط بدفق عواطفه وسخاء محبّته. جمانة حدّاد بجاذبيّتها وجرأتها المُعْدية. الياس الديري بقرويّته. فرنسوا عقل بقوّته الهادئة كما كان يسمّيها غسّان تويني عن حقّ. ميشال أبو جوده في التباسه بين منتهى المحبّة ومنتهى السخرية... هل نسيت؟ طبعاً نسيت.
بول شاوول القاتل بتطرّفه والمنقذ بتطرّفه. عبّاس بيضون المدهوش المذهل، عبّاس الأسّ في ورق اللعب. الأخطل الصغير الذائب رقّة. أمين نخلة الهاشّ الباشّ. بولس سلامة الذي لا يوحي أنّه ممكن التطرّف، برزانته وعدله، يفاجئك ذات يوم بسيلٍ من الإطلالات غير المتوقّعة. عمر أبو ريشة المتواطئ دوماً مع الحبّ. محمد عبد الوهاب الحفّار في الذهن أنغاماً وتعريفات. عبد الحليم حافظ العصفور المراهق. حليم الرّومي الحانق الصادق. جورج جرداق الذي لا ينتهي. جورج إبراهيم الخوري أَعرَف العارفين لو حكى. سعيد فريحة المبتكر كاره الثقلاء والبشعات، والخجول في ساعاته. شوقي بزيع الضاحك الباكي، المغنّي تحت القمر. أنطوان الدويهي المنتظَر، الذي أعطاك وسيعطيك الأمان. إميل منعم العرّاف المُعتَرَف إليه. سمير عطا الله البحر الحنون الساخر. حنان الشيخ البديهة. زكريا تامر المتحرّج من ذكائه. ياسين رفاعيّة حامل الهوى تناشده الحبيبة «إذا ظمئتْ روحي أقول لك: اسقني». طلال حيدر بعلبك بشعر فيروزي. سعيد تقيّ الدين الذي صرعه قلبه بكلّ انتباه. هدى النعماني الأيقونة. جرمانوس جرمانوس سيل الصور البديعة. عناية جابر «صوت الحرير، دخان العسل». حمزة عبّود الداعم الناصع. رياض نجيب الريّس المحبّ الكاره. جوزيف نجيم الإباحيّة على الشفير. جوزف بو نصّار صوت الرعشة في أحشائها وفي ذراها. إملي نصر الله بستان الطفولة. جوزف صايغ صليب الوطن. كلوديا مارشليان فراشة الذهب والزئبق. رلى حمادة الفينيقة. رندة الأسمر عُنُق التمثيل. جوليا قصّار حنجرته. نديم نعيمه الذي هو، بحدسه وإحساسه، في أصل هذا المقال. ميخائيل نعيمه قَصَب الكلمة. وديع سعادة المظلوم. الياس خوري الحكواتي الأخّاذ. سمير قصير البطل. سليم بركات العصبي النظامي.
الدكتور داهش متقدّماً نحوي منتصف الستّينات في الجامعة الأميركيّة بيد سحرني دفئها وعينين أخذتني وداعتهما. أنطون غطاس كرم النادر المالئ. جورج غانم أقرب نداء بعيد. فكتور حكيم المظلوم. مارون عبّود الصقر الثاني. نذير العظمة الراسخ في الطيبة كصنين في سلسلة جبال لبنان الغربيّة. سلمى الخضراء الجيوسي الجيّاشة. توفيق صايغ ضاعت عبقريّته المستهزئة وتاه ألمه الحرّاق تحت عيون نقد صُدم به حتّى الغربة التامّة. أبي لويس الحاج هُدهد الصحافة. إسكندر الرياشي النحيف القرفان الليبرتيني. مارك الرياشي العاطفي السهران والخسران. إبراهيم سلامة الرياشي. بيار صادق الحليب كما يخرج من ضرع البَقَرة، بكراً يتنفّس الخليقة. قيصر الجميّل الصاعق الغريزة، الشهواني الألوان. صليبا الدويهي اللازورد. محمد عيتاني أصفى الشيوعيّين. بدر شاكر السيّاب المريض الأغزر من النهر. رفيق المعلوف شاعر اللواعج والعروبة من أعالي كفرعقاب إلى أعماق الشعر العربي القديم.
ومَن أنسى؟ ولماذا أنسى؟
قلمي مُلْزَم بتذكُّر الجميع. جميع مَن قابلتهم ولو مرّة. الذين لم أقابلهم لا يحقّ لي الكلام على انطباعٍ عنهم. الانطباع هنا هو عن الشخص جسديّاً حسيّاً ونفسيّاً لا عن الاسم والمؤلّفات. لذلك غابت أسماء كصلاح لبكي والياس أبو شبكة وبدوي الجبل وشفيق المعلوف وخليل تقيّ الدين وغيرهم لأنّي، على حبّي لأدبهم، لم يُتَح لي أن ألقاهم شخصيّاً. الانطباع الذي حكيت عنه هنا هو انطباع النظرة المباشرة الأولى.
ونتابع:
جوزف أبو رزق الشارد المركّز. غسّان شربل الإنساني. عيسى مخلوف الحار. ريما الرحباني القاسية الضاحكة. زهرة مروّة الزهرتان. فاتن حمامة أنت من نعومتها تجهش غراماً. ندى الحاج لو لم تكن ابنتي. لويس لو لم يكن ابني. كمال بو نصّار لو لم يكن حفيدي. يارا لو لم تكن حفيدتي. ليلى فقيدتي لو لم تكن زوجتي. أسعد خير الله المسحوب بالحلا. جيزيل خوري الحرّة. لانا مدوّر لو لم تكن في «الميادين» لما حَلَت «الميادين». شربل داغر الذي يُصيب. جوزف عيساوي الحادّ المهادِن. كمال خير بك الشهم. شارل شهوان المشرقط. فوزي يمّين الحافل بالعشق لَهَباً وظلالاً. صبحي حبشي ضيافة المحبّة. أسد الأشقر لا يتّسع له عرين. إنعام رعد الجنتلمان المكافح. ذو الفقار قبيسي الكاتب كلّ شيء. إدمون رزق الإيقاع. فائق الرجّي الملتاع. جورج رجّي المظلوم. توفيق يوسف عوّاد مَوقِد الأعصاب الناشبة. صلاح ستيتيّة الدافئ. رشدي معلوف موسيقار الصحافة. أمين معلوف الرائي. نبيل خوري الذي مات ركضاً. عبد القادر الجنابي فريد العرب والعجم صديق العمر شقيق الروح. ساران ألكسندريان نابش الينابيع، العلّامة المظلوم في العاصمة الظالمة. كمال يوسف الحاج المظلوم. أنطوان بارود الشاعر نازل طالع. جاد الحاج مظلومي. حليم جرداق المحجَّب وراء العاريات. مارون بغدادي بطل الفيلم الذي لم يصنعه. سمير نصري الإنسان. يوسف شاهين «بيّاع الخواتم». هنري بركات المحايد. خليل حاوي الفدائي. يوسف غصوب الفم. جميل جبر السرعة. فينوس خوري غاتا الكرم. مي منسّى المنصفة المظلومة. غادة السمّان الليل. نور سلمان المساء. سهام الشعشاع حقّاً. سامية توتنجي المبحوحة. عائشة أرناؤوط المقيمة بين القلب والروح. أمل جرّاح الرموش. إدفيك جريديني شيبوب المسرعة إلى العطاء. منى سابا رحّال التي لم يكتب أحد مثلها. منى جبّور المقهورة. رفعت طربيه الصديق. شانتال شوّاف الصادقة. مرتا هراوي المُشْمسة. سعاد الصبّاح غير المتأكّدة. صباح الخير يا محمد علي فرحات. مساء الخير يا أحمد فرحات. والذين فاتني ذكرهم، عذراً وإلى اللقاء.