صوّر زياد دويري فيلمه «الصدمة» (2012) في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما يمثّل جريمة في القانون اللبناني. هذه النقطة ليست للبحث، فهي من اختصاص القضاء، لكن ماذا عن قضية الرقابة؟ هذه قضية أخرى تتخطى The Attack الذي ترجم الى «الصدمة» بدلاً من الهجوم في محاولة غير بريئة لتخفيف الصدمة الحقيقية التي يمثلها الفيلم بدءاً من عنوانه.
لا يمكن منع فيلم عن الجمهور. ليست المسألة في المبدأ فقط، بل في الإمكان أيضاً. لذا، يبدو من الحكمة عرض الفيلم تلفزيونياً على الأقل، ومناقشته لتبيان خطورة السموم التي يحويها وتشريحها. ويجب أن يقال للمخرج إنّ فيلمه ليس بالبراءة السياسية التي يدّعي، بل هو محاولة لتبييض صورة العدو، وتبرير عنصريته تجاه الفلسطينيين. عن أي موضوعية يتحدث زياد دويري؟ وأي دجل يكمن في ادعائه أنّ الشريط منحاز إلى الفلسطينيين؟ يتحدّث العمل عن عملية استشهادية تنفذها الفلسطينية سهام جعفري (الممثلة الإسرائيلية ريموند أمسالم) وتستهدف أطفالاً اسرائيليين في مطعم فتقتل 13 منهم. ومن هنا تحديداً تبدأ عملية دسّ السموم التي أتخمت بها رواية ياسمينة خضرا الأصلية. الذي يفجر الأطفال عن عمد هو إرهابي مهما كانت قضيته. يبدو التعاطف مع «الضحايا» تلقائياً، وادانة المنفذة لا مفر منها. ثم تأتي الجرعة الثانية: في الوقت الذي تنفذ فيه سهام عمليتها تكرّم فيه سلطات الاحتلال زوجها أمين جعفري (علي سليمان) وتمنحه جائزة تقديراً لعطاءاته في المؤسّسة الاسرائيلية التي انمدج فيها. فيا لحضارتهم ويا لإجرام الفلسطينيين. ويا لبراءة القصة التي تصور هاتين الصورتين المتناقضتين. ومن ثم يقال إنّ العمل موضوعي ومنحاز للفلسطينيين.
وكي تكتمل حفلة البروباغندا، نكتشف أن المحرّضَين على الهجوم هما شيخ وكاهن. إنّه تحالف الارهاب الديني الخبيث ضد اليهود الذين يعانون اضطهاد التاريخ لهم، أرأيتم لماذا يجب أن يعترف العالم بيهودية الدولة؟ ورأيتم لماذ يُهجِّر المستوطنون الإسرائيليون الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين من القدس وغيرها؟ أتسألون لماذا يهان الكهنة والمشايخ؟ انها مسألة دفاع عن النفس. شاهدوا فيلم «الصدمة». إنّه يشرح ذلك!
الم تكتفوا من السموم بعد؟ إليكم جرعة إضافية. رد فعل الاحتلال على العملية، سيكون تحقيقاً لفترة وجيزة مع الطبيب، وبالتأكيد لم تغر الطائرات الإسرائيلية على القرى الفلسطينية، ولم تدمر البيوت على رؤوسهم وتغتَل قادتهم كما تفعل عادة. هذه ليست من شيم إسرائيل بحسب الدعاية السياسية التي يتبناها دويري، وقبله كاتب الرواية التي اقتُبس عنها الفيلم ياسمينة خضرا، الذي يلهث أيضاً وراء تكريم أوروبي.
إذا، يتخطّى الفيلم جريمة التصوير في تل أبيب ليطاول جريمة تزوير الحقائق، وتبرير الهمجية الاسرائيلية أمام الرأي العام. غير أنّ المشكلة تتمثل في أنّ الرقابة جعلته بطلاً، بعدما منحته شرف أن يكون فناناً مضطهداً. هكذا، حاد الاهتمام عن لا موضوعيته الواضحة، حتى إنّ بعض الأفلام الاسرائيلية لم تكن بهذا الانحياز. هل تذكرون فيلم «فالس مع بشير»، الذي منع في لبنان أيضاً؟ حتى هو كان أكثر موضوعية من «الصدمة»، ودان الاسرائيليين اكثر مما فعل دويري، وأنصف الفلسطينيين أكثر بكثير مما يدعي المخرج الفذّ أنه فعل.
أما من ناحية الفيلم نفسه، فالحق يقال إنّ دويري قدم عملاً فنياً رائعاً من جوانب عديدة، أولها التصوير، وقدرته الاستثنائية على تقديم مساحات بصرية ممتعة. تبدو المشاهد مرتاحة، والصورة تتنفس. أما اختيار الممثلين، فلم يكن موفقاً بسبب التفاوت الكبير في الأداء بين فريق العمل الذي أراده دويري إسرائيلياً بمعظمه، ليبرر اضطراره إلى التصوير داخل الأراضي المحتلة. لم يكن أداء علي سليمان مقنعاً وبدت انفعالاته باردة، بينما بدا أداء ريموند أمسالم انفعالياً، لكنه يتناسب مع دورها، ولا سيما أنها تؤدي شخصية متناقضة وغير مستقرة. أما الممثلون الاسرائيليون الباقون (دفير بينيدك واوري غافرييل...)، فكانت أدوارهم ثانوية بلا نكهة. الجهد كله كان في الإخراج وصاحب «بيروت الغربية» هو من أفضل المخرجين اللبنانيين المخضرمين، لكن هل يشفع له هذا؟ وهل يبرر خطاياه الدعائية؟ حتى إنّ ذكره العرضيّ لمجزرة جنين جاء من باب الحفاظ على ماء الوجه، لأن الاوروبيين انفسهم ما كانوا ليغفروا له انحيازاً فاضحاً مماثلاً، فحاول ستر عورات عمله بأقل من ورقة توت.
زياد دويري اليوم في موقع الجلاد، ولن تستطيع الرقابة، على رعونتها، قلب الأدوار. ما ارتكبته هو خطأ بحقك، لكنك في رأي التاريخ مزوّر للحقائق، ومتواطئ مع جريمة تشويه نضال الفلسطينيين. وما الشريط سوى الأداة التي ضُبطت متلبساً بها، وعلى الرقابة الا تشارك في تنصيبك ضحية.