ارتاح الليبيون من معمر القذافي. هكذا هي حكاية التاريخ. ويمكن العرب أن يعبّروا عن بهجتهم بالتخلص من عميد الرؤساء العرب. لكن ملك ملوك أفريقيا لم يسقط برصاص أهله. ناسه لا يحبونه، ولا يريدونه، ولا يقدر أحد على التشكيك بذلك. لكن الناس احتاجوا الى عون. وهذه المرة، كان الغرب، الاستعمار نفسه، هو المعين، وهو الذي سيعيد معنا الفيلم ذاته. استعمار جديد، بشكل جديد، وبوجوه جديدة. وأهل ليبيا سيرفعون بوجه الجميع اليوم شعار: ليبيا أولاً. سيقولون للعرب إنكم لم تقفوا الى جانبنا في مواجهة الطاغية. وأنتم من دفعتمونا الى أحضان الغرب، وإن عجزكم وتمثل حكوماتكم بحكومة المجرم عندنا حالا دون أن نخرجه بأنفسنا، أو بدعم من أهل جلدتنا. وسيكون من الصعب على مواطن ليبي، مضطهد من القذافي وأعوانه، أن يخرج الآن، في أي مكان من ليبيا ويصرخ: لا أريد الأطلسي بيننا. هذه هي الحقيقة القاسية التي سنكون في مواجهتها ليل نهار، في شمال أفريقيا الذي قرر الأطلسي غزوه من جديد، مباشرة هذه المرة، بالنار وبموافقة أهله. وسيقوم الأطلسي بمحاسبة، مع مفعول رجعي، للذين لم يستأذنوه بإسقاط زين العابدين بن علي وحسني مبارك. وسيعاود إفهام من لم يفهم بأن إزالة الأنظمة أو تثبيتها لا يتمان إلا بأمرنا، وبإرادتنا وبعلمنا، وبحسب ما نرغب نحن، وبالطريقة التي نحددها. كل الوقائع التي قامت في ليبيا منذ خمسة شهور تقول لنا إن قادة الغرب، الذين عانقوا القذافي ومدوا أيديهم الى جيبه المليء بثروات أهل بلده، هم أنفسهم الذين يعانقون اليوم الثوار، ويمدون إيديهم الى الثروات مباشرة، لا الى جيوب فارغة إلا من نتف تفيض عن حكام الممالك السوداء. ولن يسمحوا لأحد من أبناء البلد بأن يظل صوته مرتفعاً. سيأتون بالكوادر والقيادات من أبناء ليبيا الذين اختارتهم أجهزة الغرب ليتولوا المناصب الحقيقية. وسيجري تسريح من قاد التظاهرات والانتفاضات الشعبية باحتفالات مشرفة، مع أعلى قدر من الأوسمة التي تركها القذافي في خزائنه. ومن لا يريد أن يسمع، فليستعد عبارات مصطفى عبد الجليل ليل أمس، بينما كان الثوار يطاردون رجال القذافي في شوارع طرابلس، وهو يصرخ محذراً من الفوضى، ونافضاً يده من مجموعات متطرفة قال إنها تعمل بمنطق الثأر والانتقام. وهو الذي يعرف أن دوره قد انتهى، وما بقي منه إجراء هدفه تسليم البلاد الى من يقرر الأطلسي ومعه أزلامه في الممالك السوداء اختياره في منصب القرار. وحده جيفري فيلتمان يتلقى الآن برقيات التهنئة، وهو الذي سيعمل على تنفيذ ما لم يفلح في تحقيقه في لبنان، وهو الخادم الأمين لمصالح إسرائيل، ربما قبل مصالح الولايات المتحدة نفسها.
ارتاح الجميع من القذافي. صار الرجل عبئاً على كل شيء في حياة شعبه. على الهواء، وعلى الصحراء أيضاً. وصار عبئاً على أي تفكير منطقي. لكن الصور الزاهية الآتية من طرابلس، والحاملة انفعالات أشخاص سرقت كل انفعالاتهم لعقود عدة، هي الصور الأخيرة من مشهد الثورة الشعبية، لأن الآتي بعدها صور مختارة بعناية، يسمح بقدر منها للعموم، أما البقية، فهي صورة الاستيلاء على مقدرات بلاد وشعب مقهور. تماماً كما هي حال العراق بعد إسقاط الطاغية صدام حسين، الذي لم يحظ بعطف إلا لأن الأميركيين الغاصبين هم من أسقطوه وهم من أمروا بقتله وهم من أمروا أعوانهم بتنفيذ حكم الإعدام بحقه... أليس شعوراً يستحق الدرس عندما يعرب كثيرون من أبناء العرب المقهورين عن غضبهم لأن الغرب الاستعماري هو من أسقط الطاغية الليبي؟
والآن، ماذا بعد ليبيا.. وماذا بعد القذافي؟
الخلاصة الأولى أن الغرب أبلغنا بقوة النار والدم أنه استعاد المبادرة في ملف الثورات العربية، وأن جدول الأعمال حافل في المرحلة المقبلة، وأن علينا النظر جدياً الى مصر، حيث يحاول الجيش بكل قوة أن يسقط من عقول الناس فكرة أنه يحكم بصورة انتقالية، وهو مستعد، ويعمل، بدعم أميركي وغربي، على استقطاب ما تيسّر من القوى السياسية، من أجل تنظيم عملية استيلاء أبدية على الحكم. وفي ذهن كثيرين تجربة تركيا من قبل حزب العدالة، حيث القرار للجيش، والحكم التنفيذي لم يكن في المدى نفسه. وأن علينا توقع الأسوأ في تونس إن حاول دعاة الدولة المدنية إغفال حقيقة أنه لا مجال لأن تعيش من دون وصاية الغرب الاقتصادية. وبعد قيام القاعدة الأطلسية الأكبر في ليبيا، ستكون تونس قرية لا ناقة لها ولا جمل بحسب ما يعتقدون، وبحسب ما يرغب بعض أبناء البلد من الانتهازيين الذين نافسوا بن علي على الكرسي لا على حقوق البلد.
وعلينا أن ننتظر جنوناً إضافياً عند بعض من يظن أنه يقود الثورات، من حكام وإعلاميين ومثقفين، وهؤلاء الذين سيرفعون الآن من سقف الدعوات لتدخل خارجي في اليمن وفي سوريا بحجة نصرة المتظاهرين من أبناء البلد. وسنجد من بين أبناء اليمن وسوريا، مجانين وعملاء يدعون الغرب لأن يتدخل، وأن يقصف، وأن يقتل، وأن يحرق ويدمر، المهم أن يمهد لهم الطريق لحكم أهلهم باسم الحريات والتقدم.
بعد مشهد ليبيا، ربما صار من الضروري تذكير ممالك الموت بأنها تقبض على أرواح شعوبها، وربما صار من الضروري العمل بكل قوة لحفظ سوريا واليمن وبقية بلاد العرب من جرذان فيلتمان.