هل الانقسام العمودي صفة لبنانيّة دائمة؟ لا نعرف كيف كان وضع هذه البلاد قبل المسيحيّة والإسلام ولكنْ بعدهما يبدو ان الانقسام بات قاسماً مشتركاً. عندما نتكلّم باعتزاز عن محطّات في التاريخ، توحيديّة، أو وحدويّة، يحتقن كلامنا مثلما يفعل عند استعراض الاستثناءات. فخر الدين الثاني ــــ الذي حايل الباب العالي ووسع حدود لبنان على نحو خرافي، فاستعاد الخريطة الفينيقية ومهّد للبنان المستقبل، كما يقول جواد بولس ــــ لم يتمكن من التغلب كلياً على الانقساميين في الداخل. عيوننا على الخارج وليست فقط عيون الخارج علينا. كأننا فُطمنا عن استعماراتنا على جوع. إذا لم يأتِ الخارج الينا نذهب اليه، وليس بالضرورة كعملاء بل أحياناً كطالبي إنقاذ خالصي النيّة. وسواء كان الخطر مبالغاً فيه أو واقعيّاً، فحالة الهلع التي يوقَع فيها المستنجد لا تعود قابلة للنقاش. نلجأ الى الخارج لأنه بالنسبة الينا هو «الدخل المثالي»، هو نحن الفضلى وقد اغتسلتْ من كره الذات وارتاحت من الطرف الآخر. لعلّ بين المستعمرات السابقة من يشبهنا، ولكن لا أدري إن كان بينها مجتمعات موزاييكيّة بقدرنا، دينياً ومذهبياً و«انتماءً» ثقافيّاً.
وبين المجموعات اللبنانيّة من هو أكثر من الآخرين ضياعاً بعد زوال «الاحتضان»، لعل المسيحيين في طليعتهم، وقد اهتدى السنّة الى «لبنان أولاً» والشيعة الى لبنان «الجديد» عبر إيران.

■ ■ ■



صدورنا أكبر من هوائنا. وما ينقصنا في الحكمة السياسية نعوضه بشراهة الحياة، لعلنا ننقسم (طائفياً، مناطقيّاً، عائليّاً، حزبيّاً، زوجيّاً) لأننا نكره رتابة الانسجام. عدونا المشترك هو الملل. شعب وجودي لا عرقيّ. عرقيّ في وجوديته. بلد ميكروسكوبي يُهدي دمه إلى العالم على الدوام.
يخطب ودّ العالم والعالم يَغْنم منه ما يناسبه. جرّب اللبنانيّون أنواعاً عديدة من الحروب بينها الانتحار. وبرعوا وربما طويلاً قبل الحكم العثماني بالوقوع في فخّ الصيّادين، وتسمية انتحاراته تسميات بطولية كما حصل عام 1975. ولعل إخواننا السوريين نجحوا في اصطيادنا أكثر مما نجح جيرانهم الأتراك. وأيضاً منذ ما قبل الأتراك، ومنذ ما قبل المسيح. دم يهدى الى العالم والاقربون أولى بالمعروف. وهل الأميركي أحقّ من السوري والايراني؟ والآن يعود الأخ السعودي بزخم أقوى من زخمه في اتفاق الطائف، وقد أضاف إلى أدواته المستعارة أسنانه الطبيعية.
من «مميزات» الأنظمة العربيّة (منذ ما بعد عبد الناصر خصوصاً) انعدام الفرق بين مواقفها والمواقف الأميركية من القضايا العربية، وصعوبة التمييز بين سياساتها وسياسات إسرائيل على الصعيد ذاته. اعتدنا وصف السياسة الأميركية باللا أخلاقية، بالسينيكيّة. وهي كذلك. ومن سخريات التاريخ أن جورج دبليو بوش قد يكون المسؤول الأميركي الوحيد الذي خرج عن نهج تلك السياسة، بدافع من أصوليّة ساذجة وسذاجة أصوليّة، وبسبب استسلامه لعقول مديري سياسته المعروفين براديكاليتهم. تبدو إيجابيات سلوك متطرّف كهذا حيال قضايا كالقضيّة اللبنانيّة حيث الضحيّة باتت تحتاج إلى نصير «جهنمي» لينتشلها من ورطة جهنميّة. وقد انسحب التأييد الأميركي لاستعادة لبنان استقلاله على الأنظمة العربية «المؤيدة» لأميركا فبدت مأساتنا، لوهلة، كأنها وجدت مفتاحها. وسرعان ما استأنفت السياسة الأميركيّة تلاعباتها (من يصدّق أن التحقيق في اغتيال الحريري لم يستطع بعد أن يعرف مَنْ وكيف ولماذا؟ من يصدّق أن أميركا مع تحديث المجتمعات العربيّة لا مع تحكيم أنظمة إسلامية في رقاب الناس؟ كف العفريت هي كف الجميع، أميركا و«جامعة عربية» وأوروبا، حيال بلداننا التي تتخبط).

■ ■ ■



تبدو الأزمنة الحديثة وقد ساوت الأمور في سيّئاتها ومرات لم تساوِ إلاّ بين السيّئات. كنّا نتوجّس من جمود «الموقف العربي» حيال مشاكلنا وبتنا نتوجّس من «تحرّك» هذا الموقف، وحين ينبري أحدهم لانتقاد السياسة الأميركية أصبحنا عوض التفاؤل أو الاعجاب، نتساءل: أي بلد من بلداننا سيكون ثمن المقايضة هذه المرة؟ وحين يؤكد لنا المسؤولون العرب أن مشاكلنا داخلية وحلولها يجب أن تكون داخلية نعلم علم اليقين أن التلاعب الخارجي بنا مستمر ومساعي التلاقي الداخلي ممنوعة أيضاً.
ليس لبنان وحده بحاجة الى ميثاق اجتماعي جديد لا يعالج إجحافاً بإجحاف كما فعل اتفاق الطائف، بل دول العالم العربي كلّها بحاجة إلى مثل هذه المواثيق، فلا تستطيع دول تشكو ألف علّة في طليعتها الطلاق بين النظام وشعبه أو الطلاق بين الشعب والعقل والحياة، أن تداوي علل الآخرين.
أحد أسباب الانهيار العربي انهيار الرأي العربي. ومن أسباب الانهيارين التراجع أمام المال والبطش. ما عجزت عنه الرشوة تَكَفّله القمع، الحرب على لبنان منذ 1975 هي حرب على النزاهة فيه قبل الحريّة. كثيرون من دعاة الحريّة استسلموا للمال (الخليجي وغيره) كما استسلم كثيرون من دعاة الشيوعيّة والقوميّات لبريق المناصب والجاه. وهي ظاهرة عالميّة لا محض لبنانيّة. لكن النزيه يصمد عادة أكثر من «خطيب» الحريّة. ربما لأن في طبيعة النزاهة مثاليّة مفتونة بإخلاصها، بينما الحريّة في طبيعتها متساهلة، وبعضُها لا تبعُد طريقه عن الاستهتار، ولا سيما عند ذوي الانانية التي سرعان ما تبرّر خياناتها بـ«غدرات الزمان».
لم تعتد أنظمة المال أن تسمع إلا نغمتين: التهليل والتهويل. وغالباً ما يبدأ العزف بالثانية لينتهي بالاولى، على أن يظل سيف الاولى مُصْلتاً حتّى لا تنسى اليد المعطية استحقاقات
العازفين.
عرفنا العديد ممن كانوا يتكبّرون على مدّ اليد إلى «المال العربي» يوم كان يشتريهم مال من جنسيات أخرى، وحين انحجب عنهم أو شحّ أو اتسعت رقعة «نفقاتهم» خربوا الأرض لتشملهم عباءة الاحسان النفطي بنعمتها. هي أو وكلاؤها من أهل البلاد، أو الينبوعان معاً.
والحقيقة أن مال النفط لم يُفسد إلا من كانوا في الأساس متعطّشين للفساد، والفرق بينهم وبين سواهم هو في المنافسة وفي نوعية القشرة التي تُغطّي، فبعض القشرة بلدي وبعضها
«سينييه».
ويجب أن تُفتح هذه الصفحة قبل أن يتم تصنيفها نهائياً من المسلّمات وتوضع على رفّ الأمر الواقع. صفحة شراء الذمم، تمويل الحروب، رعاية التعصّب و«الاعتدال» معاً، رفع سعر الشيء أو الحزب أو البلد لتحقيق المزيد من الربح عند بيعه، تحويل التسوّل إلى سبيل وحيد للإنقاذ، الحلف الموضوعي بين المال والارهاب، دولاً ومؤسسات وأشخاصاً، القدرة المالية العربيّة على إلغاء الأميّة والفقر والفرقة في العالم العربي وربما في العالم كلّه، وأسباب امتناع هذا المال عن تطبيق هذه القدرة.
لو كانت سوريا على حدود الخليج لا على حدود لبنان لتغيّرت الحال. لو كانت إسرائيل على حدود الخليج لا على حدود سوريا ولبنان لتغيّرت الحال.
لكن الحال هي كما هي. لا يبقى لنا إلا القول.
فلنَقُلْ