«على راغبي السكن في بيروت أن يزدادوا ثراءً حتى يتمكّنوا من التملك في العاصمة». هذه العبارة الواردة في دراسة أصدرتها شركة الاستشارات العقارية «رامكو» عن أسعار العقارات في بيروت، هي مؤشّر واضح على التغيّرات اللاحقة بالعاصمة اقتصادياً واجتماعياً. لم يعد سكان المدينة الأصليون قادرين على العيش فيها. مستويات دخلهم تبتعد كثيراً عن تلبية الحدّ الأدنى من مستوى المعيشة في بيروت. النمط الريعي في لبنان «طرد» سكانها الأصليين من ذوي الدخل المتوسط وما دون، وحوّلها إلى مقرّ للأثرياء الفاحشين. أولئك هم الذين يستفيدون من الريع لزيادة ثرواتهم. هكذا يعمل النظام في لبنان.
ينتج النظام اللبناني، بسياساته وزبائنتيه ومذهبيته وطبقيته، ارتفاعاً هائلاً وغير مبرر في أسعار الشقق. أحدث مثال على هذا الأمر كشفت عنه دراسة أجرتها «رامكو» على أسعار الشقق الواقعة ضمن نطاق مدينة بيروت. تظهر الدراسة أن السعر الوسطي للشقة في بيروت (معدّل السعر الوسطي محسوباً على أساس معدّل المساحات الوسطية للشقق الجديدة) ارتفع إلى 1.091 مليون دولار، مع تفاوت كبير بين طرفي بيروت ووسطها، أي بين مناطق وسط بيروت التي أُخضعت لنفوذ «سوليدير»، وبين مناطق غرب بيروت، وبين منطقة الوسط في الأشرفية. ففي وسط بيروت يبلغ سعر الشقة الوسطية 2.634 مليون دولار، وفي الاشرفية 1.042 مليون، وفي غرب بيروت 994 ألف دولار. هذا يعني أن سعر الشقة في سوليدير يوازي سعر 2.6 شقة في غرب بيروت و2.5 شقة في الأشرفية.
وتشير الدراسة إلى أن مساحة الشقة الوسطية تراجعت خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 18% لتبلغ 252 متراً مربعاً، بينما ارتفع السعر الوسطي لهذه المساحة «إلى مستوى لم تبلغه من قبل أسعار الشقق في العاصمة، رغم الجمود الحاصل في السوق وتدنّي حجم المبيعات خلال الأشهر الأخيرة»، يقول مدير «رامكو» كريم مكارم.
خلاصة الدراسة أن السعر الوسطي للمتر المربع الواحد ارتفع إلى 4143 دولاراً في غرب بيروت، و4204 دولارات في الأشرفية، و8156 دولاراً في وسط بيروت. أما معدّل السعر الوسطي في بيروت فقد بلغ 4331 دولاراً للمتر المربع السكني.
تشجيع الريوع لا ينتج فوارق داخلية في الأسعار السكنية في المدينة الواحدة فقط، بل يؤدي إلى فوارق هائلة بين بيروت والمدن المماثلة في الخارج. فبحسب دراسة مقارنة أعدّها الوزير السابق شربل نحاس لمعدّلات أسعار الشقق في مدينتين فرنسيتين تشبهان بيروت لجهة عدد السكان والخصائص الجغرافية ونمط المعيشة، تبيّن أن كلفة المتر المربع الواحد في بيروت توازي 10 مرّات الحدّ الأدنى للأجور، فيما يوازي سعر المتر المربع في مدينة ليون الفرنسية 1.82 من الحد الأدنى للأجور، وفي مدينة مارسيليا 2.12 من الحدّ الأدنى. هاتان المدينتان تشبهان بيروت إلى حد بعيد؛ عدد سكان «ليون» يبلغ 491 ألف نسمة، ويرتفع إلى 1.7 مليون إذا احتسبت ضواحيها، أما مارسيليا فعدد سكانها 850 ألفاً ويرتفع إلى 1.7 مليون مع الضواحي، أما بيروت فيصل عدد سكانها إلى 500 ألف نسمة ويرتفع إلى مليونين مع ضواحيها.
وتشير أرقام نحاس إلى أن الفرق هائل ومفرط بين بيروت وليون ومارسيليا قياساً على معياري الدخل وأسعار العقارات؛ فالأرقام تظهر أن الحدّ الأدنى للأجور في لبنان يوازي 25% من الحدّ الأدنى في فرنسا، إلا أن السعر الوسطي للمتر المربع في لبنان يوازي 123% من سعر المتر المربع في فرنسا (ليون ومارسيليا).
إذاً، عدم التناسب في أرقام الدخل وأسعار العقارات بين بيروت والمدن الفرنسية يعني أن المشكلة بنيوية. «وإذا اعتبرنا فرنسا بلداً طبيعياً، فإن المشكلة تصبح في لبنان مشكلة بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي فإن ردم الهوّة بين معدلات الدخل وأسعار العقارات يتطلب أمراً من اثنين: خفض أسعار العقارات 5 مرات، أو زيادة الحد الأدنى للأجور 5 مرات، قياساً على حالتي ليون ومارسيليا».
بهذا المعنى، تفرض الريوع نفسها على النسيج الاقتصادي والاجتماعي وتنتشر هذه التبعية في باقي المدن والقرى سريعاً. مكارم يعبّر عن هذا الوضع من خلال الإشارة إلى أنه بات على الراغبين في السكن في بيروت «أن يزدادوا ثراءً... في السنوات الأخيرة تفاقم مستوى الدخل المطلوب لشراء شقة في بيروت».
هذا الوضع لم تنتجه الصدفة، بل جاء من رحم بنية النظام اللبناني التي حوّلت المجتمع إلى أداة لعمليات الريع، ليصبح اللبنانيون أسرى تمويل جيوب المستفيدين من نظام الريع، سواء أولئك الذين بنوا ثروات من الفوائد على سندات الخزينة، أو أولئك الذين بنوا ثرواتهم من المضاربات العقارية بالجملة والمفرّق، فكانوا يشترون العقارات كلما ركدت السوق ويبيعونها بأسعار مضاعفة بعد فترة. الاقتصاد بشكله الكلي والقطاعي كان أكبر الخاسرين في هذا المجال، فقد موّل هذا النظام من الخزينة العامة، سواء مباشرة أو بطرق الدعم والتنفيعات السياسية والزبائنية، ثم بدأت حصّة الريوع من الناتج المحلي الإجمالي (المرتبطة بتجارة العقارات والفوائد) تطغى على حصص الأجور والقطاعات الصناعية المولدة لفرص العمل... ولذلك، فإن فورة تجارة الأراضي وتشييد المباني تكشف عن أنيابها كل خمس سنوات ثم تختبئ تحت رماد التضخم لتعود لاحقاً.
الأنكى من ذلك كلّه، أن هذا النظام مانع ويمانع أي عمليات إصلاح. ففي السنة التي تولّى فيها الوزير شربل نحاس وزارة العمل، طرح أحد أهم المشاريع التصحيحية في قطاع العقارات وتحويل الريع إلى المجتمع، أي مشروع الضريبة على الأرباح العقارية. المبالغ الناتجة من هذه الضريبة كان يمكن استعمالها في تمويل الضمان الصحي الشامل لكل اللبنانيين، بدلاً من الإبقاء على النظام الحالي الذي يترك نصف اللبنانيين بلا أي ضمان صحي ويدفعهم إلى الاستعطاء السياسي للزعماء من أجل الحصول على الطبابة والاستشفاء.
وفي واقع الحال، إن أسعار العقارات هي مؤشر واضح على كلفة المعيشة. فأسعار العقارات هي أسعار قائدة في السوق، أي إنها تجرّ كل الأسعار معها نزولاً أو صعوداً. وبما أنها لم تنخفض طيلة السنوات الماضية رغم كل «المصائب» التي تعصف بالمجتمع اللبناني وباقتصاده وأمنه، وتداعيات الأزمة المالية العالمية... فهذا يعني أن النظام القائم مستمر في تمويل الريع من جيوب اللبنانيين.