جاري.. أنسي

كنا كدوامين: نهاري وليلي. لذا، ما كنا نلتقي الا حين يصل مساء متجها الى مكتبه المجاور لمكتبي، واكون انا في صدد العودة الى البيت.
الشاعر الذي كانت غرفة مكتبه نوعاً من مغناطيس للزميلات والزملاء الصغار، فرغت من مضيفها وزوارها. كانوا يتحلقون حوله كفراشات استأنست بنور قنديل عظيم، يساعدها على رؤية طريقها وبلورة مواهبها.
اليوم، حين وصلت، كان باب المكتب مفتوحا، ظننت ان عمال التنظيفات تركوه كذلك، لكنني كنت مخطئة. فرغ المكتب من أغراض انسي الشخصية: نظاراته الطبية، وبعض الأوراق التي كتب على معظمها خواطر عابرة ارادها «خواتم» لحياة كان يعلم انها في صدد الانتهاء بإشارة من المرض.

لكني لم اجد أنسي. لم يبق من اغراضه الا كتب حديثة الإصدار وصلته من هنا او هناك: كتب شعر لمبتدئين، ارادوا ان يعرفوا كيف يتوجهون، ولكبار ارادوا رأيه فيها.
الدراسات الاسلامية كانت تستقطب الكثير من اهتمامه، بقيت ايضا بعض لوحات زيتية واخرى مائية ارسلت كهدايا إليه..
«إجا انسي؟ شو قال استاذ انسي؟» كان يقرأ للجميع. متواضعا بغير ابتذال. ولا يبخل بالكلام الجميل.. والنكتة الحاضرة، يغلف بها انتقاده
مع كثير من العسل والمفردات المدورة لئلا يؤذي براعم تفتحت للتو.. هكذا كانوا يحبونه كثيرا: شهيرة، ايلي، خالد، علي، ديمة، رزان، زينب، سناء، احمد، ميلانا، مهى، فاتن.. والأحب الى قلبه راجانا.
وكما تحول هو بخياراته السياسية والأدبية وتجربته الطويلة الى انسان تام، تحولت غرفة مكتبه في «الأخبار» الى مصلّى للمؤمنات من الزميلات، الصلوات الخمس تنتهي قبل موعد دوام انسي.
لكنه، تركنا في النهاية. هكذا، من دون وداع. لم يكن يحب ان نراه في ايامه الأخيرة. كان يقرف من تحلل الجسد، من بشاعة المرض، من مآل الإنسان الى عفن، ولم يكن يريدنا ان نراه في حاله تلك. كان لا يرى في الموت مصيرا للبشرية، عدلا. كان يرى المرض والموت وتدهور الجسد ظلما للجمال وللحياة. لهذا كان يحب ان يحاط بالصغار: ينغمس في فوران احاسيسهم وافكارهم التي تتحكم فيها هورمونات الصبا، تضحكه، لكنه يحبها.. يحبها لأنه يرى الحياة والجمال والخير أجدر بالكائن البشري. كأني به كان يؤمن بذاك المقطع من مسرحية «صح النوم» للرحابنة الذين كانت تجمعه بهم وبفيروز علاقة ارقى من كل العلاقات. حين يقول الوالي لقرنفل (فيروز) الخائفة من ان يكون مصيرها جهنم «اذا في جهنم اكيد بتكون فاضية لانو الإنسان احلى من النار».
نعم يا أنسي، الإنسان أحلى من النار، ومن المرض، ومن الموت..
«موت كموتك قتل»، قال في رحيل جوزف سماحة. لم يكن هناك ابلغ من جملته تلك. وانت يا انسي؟ موت كموتك كيف يكون؟ انسحاب؟ هجر؟ من يستطيع ان يصوغ الجملة الأخيرة ببلاغة كبلاغتك؟ تراك الآن هناك بدأت تكتشف السر الذي عذبك طوال تلك السنين؟ سر الحياة والموت؟ وما الذي كنت ستكتبه الآن، عن هناك، في «خواتمك»؟ ام ان عنوانها سيكون «بدايات»؟
ايها الجار الجميل. حتى نلتقي، وداعاً.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/20/2014 12:24:51 PM

ما أنت أيها الإنسان؟ كيف وجدت؟ ولماذا وجدت؟ من أين أتيت وإلى أين تذهب؟ ملايين البشر تأتي كل يوم الى هذه الذرة من الكون الواسع التي إسمها الأرض. وكل منهم ليس سوى ذرة على سطح ذرة! وملايين البشر تذهب كل يوم... الى حيث قال أجدادنا ببساطتهم البليغة انه لم يأتِ أحد من هناك ليُخَبِّر!! منّا من يأتي ويذهب كأن شيئا لم يكن. ومنا من يأتي فيغيّر شيئا ما ، كلمة أو عملا أو أسلوبا أو... تاريخا، فيبقى ذكره مؤبدا كما في الليتورجيا البيزنطية. وأنسي الحاج واحد من هؤلاء المؤَبَّدين. أتخيل جسده - النحيل بأناقة - مسجى بوداعة على سرير أبيض محاطا بالزهور التي أحبها وأحبته، فأتساءل: كيف يَسَع هذا السرير من ملأ الدنيا بروحه الطيبة ومحبته المتواصلة وتواضعه اللا محدود وكلماته الأزلية وعاطفته الراقية ولغته المتجددة؟ وأتخيله مسجى على صفحات "الأخبار"، "الأخبار" التي أحبته فأعطته صفحتها الأخيرة كل سبت، وأحبها فمنحها كلماته الأخيرة وخواتم فكره وشعره والنثر. فربح أنسي وربحت "الأخبار" وربحنا نحن القراء. في الليتورجيا البيزنطية أيضا أن الله سمح بالموت "كي لا يصير الشر عديم الزوال". جميل! ولكن ماذا عن الخير والأخيار؟ لماذا يجب أن يكونوا مثل الأشرار؟ أَمِنْ أجل المساواة؟ وماذا عن العدالة؟ وكيف يحدث أن تصير العدالة نقيض المساواة؟ لماذا في النهاية يجب أن يتساوى من أمضى عمره بارتكاب الشرور بمن أمضى حياته في عبادة الحق والخير والجمال. صدقوني... لا أعرف الجواب. عزائي الحار لعائلة أنسي الصغيرة، ولعائلته في "الأخبار"، ولعائلة المحبين الكبيرة التي لا يستطيع أحد إحصاءها.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول مجهول - 2/20/2014 8:50:59 AM

صباح الخير ضحى شمس وكتير حلو يللي انكتب

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم