خفتت كل الأصوات المنادية بعقد مؤتمر للتفاوض بين الحكومة السورية ومعارضيها، تحت عنوان «جنيف 3». فالظروف الميدانية التي أتاحت للنظام السوري عدم تقديم تنازلات في مؤتمر «جنيف 2» لا تزال على حالها. بل إن الجيش السوري، استمر، مع القوى الحليفة له، بتحقيق تقدم في الميدان يسمح للنظام، مرة أخرى، برفض تقديم أي تنازل جدي في أي مفاوضات تجرى في المدى المنظور. على هذا الأساس، أتت معارك المعارضة الاخيرة في القنيطرة ودرعا، وفي كسب وإدلب وحلب.
حتى اليوم، يبدو ان كل المعارك في كفة، ومعركة حلب في كفة اخرى. في دمشق وريفها (الغوطة الشرقية والقلمون)، ولاحقاً في مدينة حمص ومحيطها القريب، باتت قوى المعارضة مسلّمة بالخسارة. استماتتها في الدفاع تهدف إلى جعل الطرف الآخر يدفع ثمناً باهظاً لا اكثر. كل المعارك الاخرى لا تعوّض ميدانياً ومعنوياً الخسارة في دمشق والمنطقة الوسطى، باستثناء حلب. ومن هنا أتى الحشد الكبير لقوى المعارضة في العاصمة الاقتصادية لسوريا. والحديث في اوساط المعارضين لا يقتصر على تحقيق تقدّم، بل يتعداه إلى الوعد بالسيطرة التامة على اكبر مدن الشمال. تريد المعارضة، بحسب ما يُرصَد من نقاشاتها، تحقيق نصر سريع في حلب، قبل ان ينهي النظام وحلفاؤه معاركهم في دمشق وريفها وحمص. فاستقرار الأمر في العاصمة والمنطقة الوسطى على هوى النظام، سيتيح للجيش السوري وحلفائه تحرير جزء كبير من قوات النخبة، وتحريكها نحو الجبهات الساخنة الاخرى. وحينذاك، سيكون من الصعب على المعارضين تحقيق تقدّم ذي قيمة استراتيجية في الشمال أو في الجنوب. حتى اليوم، لم يحقق المقاتلون القاعديو الهوى اختراقاً استراتيجياً، إلا انهم زجّوا بقوات النخبة في معارك الشمال. ففي حلب، مثلاً، يقود الحرب «جيش المهاجرين والأنصار» الذي يضم في غالبيته العظمى مقاتلين قوقازيين مدربين جيداً، وأصحاب خبرة قتالية.
على هذه الخلفية، طفا على السطح من جديد الحديث عن استخدام الجيش السوري لأسلحة كيميائية. في آب الماضي، كانت الحكومة السورية قد طلبت التحقيق في حادثة استخدام المسلحين أسلحة كيميائية في منطقة خان العسل بحلب. لكن هجوم الغوطة الشرقية وضع النظام في دائرة الاتهام الغربي باستخدام غازات سامة ضد المعارضين. قادت واشنطن حملة تهديد بالعدوان على سوريا، انتهت بالحل الروسي الذي قضى بتخلي سوريا عن ترسانتها الكيميائية. هذه المرة، بعثت الحكومة السورية (يوم 25 آذار) برسالة إلى الأمم المتحدة، تقول فيها إنها رصدت اتصالات بين معارضين في منطقة جوبر الملاصقة للعاصمة، تشير إلى ان «المجموعات الإرهابية ستشن هجمات باستخدام الغاز السام، بهدف إلصاق التهمة بالقوات الحكومية».
وفيما التزمت المعارضة الصمت، كان لافتاً أن إسرائيل هي من افتتحت هذه المرة بازار اتهام النظام باستخدام أسلحة كيميائية. فيوم 7 نيسان، نقل موقع «القناة العاشرة» العبرية عن مصدر «أمني إسرائيلي كبير» أنّ قوات الجيش السوري، عادت في الفترة الاخيرة الى استخدام المواد الكيميائية ضد قوات المعارضة. وقد استخدمت ذلك على الاقل في حالة واحدة، في السابع عشر من اذار في منطقة حرستا شرقي دمشق. وبحسب المصدر الأمني الإسرائيلي، الأمر هذه المرة لا يتعلق بمواد كيميائية مميتة موجودة على لائحة المواد الممنوعة بحسب الاتفاق مع الغرب، بل بمواد تشلّ من يصاب بها لساعات عدة.
بعد أربعة ايام، تلقفت المعارضة السورية الاتهام، فأصدر «الائتلاف» بياناً طالب فيه «المجتمع الدولي» بالتحقيق في استخدام النظام للغازات السامة في حرستا. الصحافة الغربية بدأت من جديد العزف على وتر استخدام الكيميائي. ويوم امس، تبادل النظام والمعارضة الاتهامات بشأن استخدام غازات سامة في بلدة كفرزيتا في ريف حماه.
واشنطن «نأت بنفسها» حتى الآن، إذ قالت الناطقة باسم الخارجية جنيفر ساكي أمس إن بلادها لا تملك أدلة على استخدام أسلحة كيميائية. البريطانيون والفرنسيون يبدون أكثر حماسة من غيرهم للحديث عن هذه القضية. ففي باريس، تؤكد مصادر دبلوماسية غربية أن السلطات الفرنسية، ومنذ ما بعد فشل مؤتمر «جنيف 2»، تتحدّث عن إمكان استخدام النظام السوري أسلحة كيميائية غير محظرة دولياً، وان على المجتمع الدولي التحرك لردع النظام. كلام شبّهته المصادر بمضمون التسجيل الصوتي الذي نُشر في 27 آذار الماضي، ويتضمن محضر اجتماع سري لفريق عمل رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، يبحثون فيه عن خلق ذرائع تتيح لتركيا التدخل عسكرياً في سوريا. تدخّل تبدو مقوماته غير متوفرة حالياً. فبحسب مصادر قريبة من النظام في سوريا، يهدف «هذا التهويل إلى أمرين: تبرئة المعارضة مما تقوم به، ومحاولة يائسة لرسم خطوط حمراء أمام الجيش السوري وحلفائه في معركتهم في ريف دمشق، لتتمكّن المعارضة من تحقيق تقدّم في الشمال».