بعد البدء بالمرحلة الثانية من أعمال إنشاء سد جنّة، عادت الأصوات المناهضة له، ولكن هذه المرّة من باب المجتمع المدني. فقد دعا البيئيون إلى الوقف الفوري لـ«الحلم» الذي أراد وزير الطاقة السابق جبران باسيل تحقيقه، وذلك لأن «الموقع ليس مناسباً»، عارضين مجموعة من الأسباب الجيولوجية والبيئية والثقافية والاقتصادية لتبرير موقفهم المعترض.
سنة مرّت على وضع حجر الأساس لسدّ جنّة. حينها، صفّق الجميع لمن شرع بتحقيق «حلم» قديم جرى الحديث عنه منذ الخمسينيات. وسرعان ما بدأت المسيرة الطويلة للأعمال التي من المقرر أن تنتهي في 2017، متجاهلة الأصوات التي ارتفعت ضدّه والتي وضعها حينها وزير الطاقة والمياه جبران باسيل في خانة «الروايات» التي ألفها «أصحاب الخير»، واعداً بألا شيء سيقف بوجه استكمال التنفيذ حتى النهاية.
هكذا، تم اعتبار كل من يعترض على إنشاء هذا السدّ في المرحلة الماضية مشاركاً بحملة سياسية ضدّ هذا الفريق السياسي أو ذاك، فانقسم الناس حول جدواه وعدمها لفترة، ومن ثم قبع في النسيان، ليظهر اليوم من جديد، ولكن هذه المرّة من النافذة البيئية.
ففي بيان صادر عن «الحركة البيئية اللبنانية»، طالبت الحركة كلاً من الرؤساء الثلاثة، بوقف أعمال إنشاء سدّ جنّه فوراً، وإعادة الحال إلى ما كانت عليه، ودعت المواطنين إلى تأييد مطلبها، وذلك «لأن الموقع غير مناسب».
وشرحت الأسباب الجيولوجية التي دفعتها إلى تأكيد ذلك، مشيرة إلى أن المنطقة التي تم اختيارها هي كارستيكية، ما يؤدي إلى صعوبة تجمع المياه. وبحسب البيان، فإن «نسبة تسرّب المياه تتراوح بين 35 و52 في المئة، مّا يقلّص قدرة هذا السدّ على تخزين المياه إلى 8 مليون متر مكعّب فقط، بدلاً من الـ30 مليون متر مكّعب» التي يجري الحديث عنها اليوم.
وتجدر الإشارة إلى أن المعهد الفيدرالي للعلوم الجيولوجيّة والثّروات الطبيعيّة الألماني الـBGR، استناداً إلى الدراسات التي قام بها بالتعاون مع مجلس الإنماء والإعمار اللّبناني في إطار تنفيذ مشروع «حماية نبع جعيتا»، كان قد أكد عام 2012 أن التّخطيط لسدّ جنة لم يأخذ بعين الاعتبار عناصر جيولوجية وهيدروجيولوجية مهمّة وحسّاسة موجودة في الموقع المقترح لبنائه وهي: الفوالق المتعدّدة والنشطة، اتجاه الطبقات الجيولوجية المعاكسة لتدفق المياه السطحية، الدّلمتة التي تزيد من مسامية الصخر، وتفاوت سماكة البازلت. وأكّدت الدّراسات أنّ محاولة منع التّسرب ستؤثّر مباشرةً وبشكل سلبي على نبع جعيتا.
تتخوف الحركة
البيئية اللبنانية أن
يؤدّي السد إلى جفاف نهر ابراهيم كلياً
وفي حزيران الماضي، نُشر تقرير صادر عن مكتب التدقيق العالمي «SAFEGE»، الذي عمد بتكليف من وزارة الطاقة والمياه، الى إجراء التدقيق الفني على دراسات السدود الجاهزة للتلزيم، ومنها دراسات سد جنّة على نهر ابراهيم، والذي خلص الى أن «الطبيعتين الجيولوجية والجيولوجية _ المائية للأرض غير صالحتين لإنشاء سد مائي. وإلى أن موقع سدّ جنة غير مؤهل لتخزين المياه، وغير صالح لمعالجة القواعد الأساسية للسد».
وبالإضافة إلى ذلك، يؤكد أحد الخبراء بعلم الجيولوجيا لـ«الأخبار» أن «سدّ حمانا جرى إيقافه بسبب مروره فوق فيلق واحد، فالحري هو هذا السدّ الذي يمرّ فوق منطقة نشطة، وفوق ثلاثة فوالق». ويقول: «نعلم أن الهزات كانت منذ آلاف السنوات ولكنها قد تعود في أي لحظة، وإنشاء سدّ مضاد للهزات الأرضية ستكون كلفته مرتفعة جداً. فلماذا نريد القيام به رغم رفض الطبيعة، وما دام بإمكاننا التفتيش عن منطقة بديلة؟».
ويكشف أن «نهر ابراهيم، يحمل معه رواسب كثيرة من المعادن، وهذا ما يسبب اللون الأحمر الذي يميّزه مرّة في السنة والذي ترافق مع أسطورة أدونيس الشهيرة»، معبراً عن تخوفه من «أن تضغط هذه المعادن على السد، ما يؤدي إلى انهياره تماماً كما انهار سدّ «مالباسي» في فرنسا عام 1959 وأدى حينها إلى كارثة إنسانية سقط ضحيتها أكثر من 400 قتيل».
وإلى جانب الأسباب الجيولوجية، يرفض البيئيون المشروع اليوم لأسباب بيئية، متخوفين من عدم الأخذ في الاعتبار تأثيره على البيئة وتأثير البيئة عليه، نظراً إلى عدم القيام بدراسة تقييم الأثر البيئي الملزمة، خصوصاً أن المشروع يتعلق بثاني أضخم سد في لبنان ويملك الحائط الأكثر ارتفاعاً في المنطقة. وتتخوف الحركة البيئية اللبنانية من أن يؤدي هذا السد إلى «جفاف نهر ابراهيم كلياً»... ذلك «الموقع الطبيعي» بحسب تصنيف وزارة البيئة الصادر عنها بموجب قرار عام 1997، وذلك الموطن لأنواع كثيرة من الحيوانات، إلى جانب النباتات والورود التي لا توجد في أي مكان في العالم إلا على ضفافه. فلم تُسمّى تلك البلدة «جنّة» عبثاً، بل يعود ذلك إلى جمال النهر الذي يمرّ بها وجمال محيطه.
أما على الصعيد الثقافي والتاريخي، فقد رشح «نهر ابراهيم» من قبل وزارة الثقافة اللبنانية ليكون على لائحة الإرث الثقافي العالمي لـ «الأونسكو». فكانت ضفافه تعتبر مقدّسة على أيام الفينيقيين، ومنها بزغت أسطورة أدونيس وعشتروت، حتى وصف أحد المؤرخين المنطقة التي يمر بها النهر بأنها «الأبرز في لبنان»، بسبب أهميتها التاريخية.
وبالإضافة إلى ذلك، يعتبر البيئيون أن كلفة السدّ مرتفعة جداً، ويشيرون إلى الانعكاس السلبي على الاقتصاد الوطني، في حال جفّ نهر ابراهيم نظراً لكونه معلماً سياحياً مهماً.
«مخاطر عديدة» تحدث عنها الوزير باسيل عام 2013 كانت محيطة بالمشروع، لكنه أكد حينها أنه جرى القيام بكل الدراسات اللازمة لكي يجري إنشاؤه على أسس تقنية عالية كونه «مشروعاً مهماً للبنان».
وقال حينها: «لن يبقى السد حلماً عند اهالي جبل لبنان» رغم أن معظم مياهه ستتجه في الواقع إلى بيروت.
إلا أن الكرة اليوم في ملعب وزارتي البيئة والثقافة المطالبتين بالسهر على هذا الموقع المهم بيئياً وثقافياً، وفي ملعب وزارة الطاقة أيضاً التي يطالبها البيئيون بإعادة النظر بجدوى إنشاء سد جنّة الفعلية، تجنباً لإمكانية تحول الحلم إلى كابوس، والجنّة إلى نار، في حال ثبتت مخاوف المجتمع المدني.
من جهته، أبدى وزير البيئة محمد المشنوق اهتماماً بقضية السد، واعلن في بيان، صادر عن مكتبه الاعلامي، أنه تبيّن له «أن وزارة الطاقة تجاهلت في الماضي كتب وزارة البيئة التي تطالب بضرورة إعداد دراسة الأثر بيئي لكل سدّ، وبشكل خاص لمشروع سد جنّة، رغم النصوص الواضحة في مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي الصادر عام 2012». وتبيّن للوزارة أيضاً «أن هناك عمليات حفر وأشغال في منطقة حوض نهر ابراهيم تُنفّذ لصالح مشروع سد جنّة متغاضية عن ضرورة الحصول على موافقة وزارة البيئة بحسب الاصول». وقال المشنوق انه «قام بتوجيه كتاب الى وزير الطاقة أرتور نظريان مطالباً بوقف العمل فوراً بهذا المشروع والقيام بتسليم وزارة البيئة دراسة الأثر البيئي لإبداء الرأي فيها في ضوء التساؤلات التي أشارت اليها دراسات بيئية سابقة».
وأكد الوزير المشنوق «ثقته بالوزير نظريان الحريص حتماً على تطبيق القوانين وإعادة الامور الى نصابها»، لكنه لفت الى أنه «في حال استمر تجاهل هذا العمل ستُضطر وزارة البيئة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لوقف العمل في المشروع الى حين تطبيق نصوص مرسوم أصول تقويم الأثر البيئي».