تابعناه، البطريرك بشارة الراعي، بقلوب مبتهجة، وهو يعيد بناء صورة الكنيسة المارونية في المشرق العربي، أولاً، لدى المسيحيين؛ فليعرفْ، إذاً، مَن لا يعرف أن كنيسة لبنان اللبنانية هذه، وبكل التوقير والاحترام اللازمين، مشوّشة لدى... «سائر المشرق».
هناك، بالطبع، الانفصال الذي أراده المستعمرون الفرنسيون بين لبنان الكاثوليكي، والمشرق الأرثوذكسيّ. منذ العشرينيات، مضى مسيحيو المشرق في طريقين: ماروني قومي لبناني يتجه نحو انفصال لبنان، وأرثوذكسي يناضل من أجل وحدة بلاد الشام والعرب. في خلفية الطريقين، بالطبع، مؤثرات كنسية ودينية وثقافية، ولكنهما يعكسان، في التحليل الأخير، مصالح اجتماعية ــــ سياسية متعارضة: الموارنة في لبنان أكثرية تهيّأ لها مهاد تشكيل عصبية دولة منفصلة، بينما شتَّت تقسيم سايكس ــــ بيكو، والمشروع الصهيوني، الكتلة الأرثوذكسية الكبيرة الوازنة في سوريا الكبرى، وحوّلاها إلى أقليات موزعة على دول أربع؛ فلم ترضَ هذا الشتات، وسعت إلى جمع الشمل في استعادة الهوية، إنما في صيغتين حديثتين: القومية السورية، والقومية العربية. والأخيرة لا تزيد عن كونها، بالممارسة، مشرقية .
وبينما بقيتْ، في لبنان، فعالية أرثوذكسية، دينية وسياسية، فإن الكاثوليك في بلاد الشام ــــ والطوائف المسيحية الأخرى ــــ احتفظت بالديني من دون السياسي والثقافي، الأرثوذكسي على الإجمال.
من هنا، جاءت ظاهرة التجذر المسيحي المشرقي في معاداة الكيان الصهيوني. يكفي، لكي ندرك حجم ذلك العداء، أن نقارن نسبة المسيحيين، البارزة، بين النشطاء، باحثين وكتاباً ومناضلين ومقاومين، ضد الصهيونية، بنسبتهم العددية، الأقلّ، بين مواطنيهم. وفي الإحصاءات الإسرائيلية: حوالي نصف النشاط الأدبي العربي ضد الصهيونية، انجزته أقلام العرب المسيحيين!
هناك، بالطبع، الكثيرون من المناضلين العروبيين اليساريين في صفوف موارنة لبنان، إنما لم ينشأ في سوريا والأردن وفلسطين حزب مسيحي أبداً، ولا حتى تيار سياسي مسيحي. بالنتيجة؛ خسر الموارنة، بالانفصال، وتالياً بالحرب الأهلية، وضعَهم الخاص في عصبية الدولة التي أنشأوها، بينما تمتع المشتّتون من مسيحيي البلاد السورية الأخرى بمواقع اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية ورمزية، مضاعفة مرتين، ثلاثاً، أو أكثر عن «حصصهم» الديموغرافية؛ في الجمهورية العربية السورية بلا قيود، وإنما، أيضا، في الدولة الأردنية والحركة الوطنية الفلسطينية.
حتى 2005 يمكن للقارئ، إذاً، أن يتصور ذلك الانشقاق النفسي الثقافي السياسي بين الكتلة المارونية اللبنانية والكتلة المسيحية المشرقية؛ إلا أن انبثاق التيار الوطني الحرّ، بزعامة ميشال عون، بسياساته الجديدة المقتربة من روح مسيحيي المشرق، فتح أبواباً واسعة لوحدة المسيحيين في سائر المشرق، في السياق العروبي التوحيدي، ما أعطى الأمل بالتمهيد لقيامة هذه الكتلة الاجتماعية التاريخية التي صلبها العثمانيون والأوروبيون والرجعيون، زمناً طويلاً؛ فقاومت وتجذّرت ووسعت نطاق حضورها على كل الأصعدة.
خطوة أخرى، إيجابية للغاية، وقعت، في هذا السياق، باعتلاء الكاردينال بشارة الراعي، سدّة البطريركية المارونية؛ خرج من الشرنقة المارونية اللبنانية التي تمنح، لنفسها، الحق في احتكار ما هو مسيحي في المشرق والشرق، ورأى، بقلب نقي وعقل نابه وعينين فطنتين، أن لحظة الهجمة الاستئصالية للميليشيات الهمجية المدعومة من الغرب وإسرائيل والخليج، ضد مسيحيي سوريا، هي خطر لا يستثني مسيحيي لبنان ــــ كما تتوهم أوساط القوات والكتائب والرئيس ميشال سليمان ... ــــ واستنتج أن صد الهجمة السوداء، تتطلب العودة إلى التحام المسيحية المشرقية؛ بذلك أصبح الراعي رمزاً مضاعفاً، للمسيحية الموحدة، وللمشرقية، وللاستقلالية السياسية؛ كل ذلك إضافة إلى رمزية المقام الأول في الكنيسة الوطنية للبنان.
في شخصية البطريرك اللبناني لا يمكن الفصل بين الديني والسياسي، وفي شخصية الراعي، لا يمكن الفصل بين الديني والسياسي والرمزي. وهي مرتبة لا تُطال؛ رأسمال المقام والشخص المتحدين معاً، تجاوزت حدود الكنسي واليومي والبروتوكولي الخ. وأي مساس بها يجرح الحلم المسيحي المشرقي الذي يعيش، اليوم، جمعة الألم العظيمة، ويتطلع إلى انبثاق النور والمجد.
و... حين يحمل رجل صليباً وأملاً تاريخيين، لا يعود حرّاً في قرار مرافقة البابا حتى في زيارة رعوية إلى فلسطين المحتلة. ليس الراعي مجرّد رجل دين، ليفعلها في إطار رؤية رعوية أو كنسية؛ إنه رمز وطني لبناني ومشرقي عربي وراية في مواجهة الظلاميين والسفّاحين؛ زيارته رسالة؛ فلتكن اليوم إلى معلولا المحررة، في انتظار تحرير القدس.
وسأختم بملاحظتين: (1) زيارة البطريرك إلى الأراضي المحتلة، من حيث دلالاتها في الهنا والآن، أهم، مئة مرة، من زيارة البابا؛ فلا يمكن تبرير الأولى بالثانية، (2) قرار الزيارة لا أراه بعيدا عن الميل البطريركي إلى التمديد لرئيس يعادي المقاومة ويتودد لقتَلَة مسيحيي سوريا؛ فهل هو انقلاب سياسي؟