الرقم المذهل

أصابني الرقم، تماماً كمذيع "بي بي سي" الذي كان يناقشه، بالذهول. ذهول... ثم نوبة من الضحك أعقبتها ابتسامة ساخرة ملتوية على مرارة. والرقم هو لمعهد "غالوب"، وقد ورد في استفتاء بمناسبة العام الجديد، حول السؤال الآتي: هل أنتم متفائلون بالمستقبل؟ طرح السؤال على مواطنين من بلدان متعددة بينها لبنان. أما الرقم الذي أشرت إليه في البداية فهو، صدق أو لا تصدق، ٦٥٪ من اللبنانيين متفائلون بالمستقبل!

أي؟ سبعة أشخاص من عشرة...
بعد الذهول، المشترك بين المذيع الذي كان يواصل استفهاماته دون أن يفهم، وبيني، انفردت بالضحك (لا أظن أنه كان يستطيع أن يحذو حذوي، وإلا فعلها) وأنا أسمع الردود التي ساقها بعض المواطنين اللبنانيين الذين استضافهم البرنامج، تعليلاً لهذا الرقم المدهش.
"حب الحياة" كان التفسير. على أساس أن الشعوب الأخرى التي تجتاح بلادها الاضطرابات الاجتماعية، ولا تتفاءل، عن حق، بالمستقبل، لا تحب الحياة.
"لكن؟" اللبناني يحب الحياة، حتى لو مات الشعب اللبناني كله أمامه. يحب الحياة ولا فرق عنده، آمات الآخرون أم عاشوا.
يكتشف اللبنانيون، الذين يسمون انفكاك أواصر تضامنهم الاجتماعي حباً للحياة، الفسحة العامة والتعبير فيها عن أوجاعهم بالمناسبة فقط، أي عندما يمسّهم سوط الألم بمصيبة ما. ينزلون إلى الشارع فرادى.. وحيدين إلا من بعض جيرانهم.
منذ برهة، وقعت في فرنسا جريمة هزّت العالم. الكلمة الأولى التي تفوّه بها الرئيس هناك هي "الوحدة الوطنية". والوحدة الوطنية تعني بين ما تعنيه، التضامن الاجتماعي بين مكونات المجتمع. هذه القيمة التي يعرف الفرنسيون جيداً كيف يحافظون عليها عندهم، يسوقونها عندنا كما يفعل الكثيرون تحت ماركة.. "حب الحياة".
ينزل الأساتذة إلى الشارع من أجل سلسلة الرتب والرواتب، وهي سلسلة تعني غالبية المواطنين، فلا ينزل تضامناً معهم إلا المعنيون مباشرة. أتكلم عن تحرك عرف، أكثر من غيره بكثير، كيف يجمع كلمة المتضررين من عدم إقرار السلسلة. لم أتكلم عن المستأجرين، ولا عن العنف ضد النساء، ولا عن المفقودن بالحرب الأهلية، ولا عن العسكريين المخطوفين الذين اكتشف أهلهم الشارع بمناسبة خطف أولادهم، ولا عن المياومين أيضاً الذين اكتشفوا الاعتصام والتظاهر، لا بل احتلال مقارّ عامة من أجل فرض الاهتمام بهم. كل فريق يكتشف وحده التحرك الاجتماعي، تماماً عندما يحتاج إلى التضامن الاجتماعي من قبل بقية اللبنانيين، ينزل إلى الشارع بحثاً عن إخوته في المواطنة، فلا يجد إلا التأفف والتذمر. تارةً باسم السياحة، وتارةً باسم النظام العام إلخ... يقطعون الطرق فيتأفف الباقون، يشعلون الإطارات فيسدّ الباقون أنوفهم... يا وحدهم. يصرخون. فالصراخ سمة من يعلم أن أحداً لا يسمعه.
في فرنسا، حين يقطع المزارعون مثلاً الطرقات الدولية بإفراغ بضائع شاحناتهم عليها، أو يقطعها الصيادون بإفراغ شحنات السمك على الطرقات، أو حين يُضرب عمال القطارات أو المطارات.. لا يخرج عليهم الباقون محتجين أنهم يفسدون الموسم السياحي.. وحين يخطف رهائن مثلاً؟ تتوحد الشاشات وعناوين الجرائد.. تحت عنوان التضامن الاجتماعي.
لكن عندنا؟ ومذ وعيت على الحياة العامة، كنت أسمع الجملة الآتية حين يتحدث الأجانب عن لبنان: انظروا إلى اللبنانيين كم يحبون الحياة: جنوبه محتل، والغارات الإسرائيلية يومية هناك، والكازينو يستقبل نجوماً عالميين، والملاهي شغالة.
لا بل إن هناك أفلاماً دعائية عن لبنان كنت أشاهدها في باريس أحياناً في بعض المناسبات الفرنسية اللبنانية، تمجّد هذا "الحب للحياة"، مشاهد لفتيات جميلات بالبيكيني يتزلجن برياضة "السكي نوتيك" في خليج جونية، أو لشبان يقفزون بالمظلات الشراعية، أو يعرّضون أجسامهم للشمس على الشواطئ وبلاجات الفنادق الفخمة.
يومها، مناطق بكاملها كانت مقطوعة عن بقية الوطن بالحواجز المذهبية والطائفية، واللبنانيون كانوا يقتلون على الهوية، إلا أن بقية المناطق"السياحية" كانت "تنغل نغلاً" بزائريها، والمطاعم ممتلئة عن بكرة أبيها.
أما الشارع، بمفهومه المواطني، فغير موجود. هو فقط موجود بمفهومه الجغرافي، أي إنه، تماماً، مثل لبنان، من أجل الترانزيت. ترانزيت حتى للبنانيين الذين ما إن ينهون دراستهم حتى يغادروه.
حسناً.. أحبوا الحياة.. فرادى. كل لوحده. وحين تحل بكم مصيبة، لا تتوقعوا أن ينزل الناس معكم.. فالبقية أيضاً، مثلكم، وللأسف.. "يحبون الحياة".

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

Dalal Dalal - 1/28/2015 10:53:04 AM

الشعب اللبناني موهوم، بحاجة لكف ليوعى

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

نور الزهراء فاطمة نور الزهراء فاطمة - 1/27/2015 10:53:07 PM

جارحة بواقعيتك ,دقيقة بوصفك ... اللبناني لا يحب الحياة ..اللبناني لا يعرف معنى الحياة اصلا ومقالك افصح من اي تعليق تحياتي ودعمي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مغتربه مغتربه - 1/27/2015 7:03:15 AM

اذكر مثلا كان يتردد علي مسامعي " اذا جاري بخير انا بخير" بسيط بكلماته ولكن يعبر عن شعور الانتماء للحي الذي اسكنه والوطن الذي أعيش في كنفه. اليوم الشعار تبدل في لبنان " اللهم نفسي ومن بعدي الطوفان" أشفق علي شعب اصبح يعيش في عالم خيالي لا يمت الي الواقع بصله. اتخيل مثلا ان تنهال الصواريخ من عدو ما علي منطقه في فرنسا او ألمانيا . هل يبقي فرنسيا او ألمانيا في الملاهي وعلي الشواطيء ام ينزلون جميعهم الي الشارع ؟ طبعا يتضامنون وينزلون الي الشارع. احزن كلما فكرت بحرب تموز ٢٠٠٦ ، ناس تقتل وتهجر وفي شارع اخر ليس بعيدا اخرون يرقصون ويضحكون. ست ضحي انسي لم يعد اللبنانيون مثل قبل . ما عدا ذلك وصفك للحالة اللبنانيه رائع جدا ومضحك مبكي. تقديري

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول مجهول - 1/25/2015 10:39:51 PM

"كل من إيده اله" أذكر ان هذا كان اسم الحارة في احد مسلسلات غوار الفكاهية. أعتقد ان هذه الظاهرة مستفحلة جدا حيث اعيش في امريكا. فمنذ اعوام سرقت الشركات المالية اموال المدخرين في سوق الأوراق المالية ولم يحرك هؤلاء المدخرين ساكنا. ممكن ان هذه الظاهرة مرتبطةبالعولمة التي عارضتها فرنسا بشدة على ارضها وفقط. ومع هيك بيكفي بلبنان في مجتمع ولو انه من طائفة واحدة متضامن مع بعضه وبيحاول توسيع التضامن ليشمل الوطن. انتو في حال افضل من الأمريكان. ألله يوسعهاعليكم اكثر من هيك والمجد لشهداءكم رغم نعومة اظفارهم!

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

فيصل باشا/برلين فيصل باشا/برلين - 1/25/2015 9:17:50 PM

متفائلون ممكن بغد افضل وبمستقبل مش بالمستقبل تبع لبنان بل بالهجرة ! متفائلون أم متشائلون ٦٥ ٪ و٣٥٪ متشائمون حسب القضايا المطروحة ما في شي واضح بمعالم المستقبل لان أية قضية يكون فيها ٩٩,٩٩ نائمون وغير مهتمون. هناك هوة سحيقة بين اللبنانيون لا تجمعهم قضية واحدة انفصام بالشخصية لا أكثر ولا أكبر والهوة سوف تبقى سحيقة بيننا فلكل تفائله أنا متفائل بان الجيش سوف ينتصر والمقاومة فلست عن أي تفائل يتحدثون والدم يسيل في كل بلدان العرب ولبنان تشبه فيه الحياة الموت لولا فسحة الأمل. نعم نحب الحياة ولكن هل نعمل شي للحفاظ عليها لتكون كريمة بدءا من سلسلة الرتب والرواتب إلى أهالي العسكرين ؟ ح نمدد لشعار حب الحياة بس كرمال تضحكي أحسن من ضحكة الانجليزي الباردة.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم