منذ عامين ــ على الأقلّ ــ بدا أنّ الحرب المفتوحة في سوريا قد استكملت كلّ مقوّمات التحوّل إلى لعبةٍ متداخلة كُبرى تتعدّد الأهداف فيها، وتتجاوزُ الجغرافيا. وإخلاصاً لشروط اللعبة، كان طبيعيّاً أن تتضاءل حظوظُ المُصادفات في تحوّلات «البندقيّة المعارضة». لا يعني هذا أنّ كلّ المجموعات المسلّحة تحسب خطواتها بدقّة، لكنّه يعني بالضرورة أنّ المشهدَ برُمّته يبدو مُداراً بعنايةٍ فائقة. أياد خفيّة ترسم المسارات، وتتحكم في مواعيد تسخين الجبهات، بل وتدير الصراعات بين المجموعات نفسها. تعدّدت الجهات الإقليميّة والدّولية التي استثمرت «البندقيّة» ووجّهتها، واخترقت حامليها (حتى الأجهزة السورية وحلفاؤها استثمروا في هذا المجال).
«بعبع النّصرة»... استثمار تركي

أحدث المستجدّات في هذا السياق يشي بعودة تركيّة قويّة إلى «هندسة» المشهد المُسلّح في الشمال على وجه الخصوص. وإذا كان من المسلّم به أن الأتراك لن يعملوا في معزل عن ثالوث التمويل الخليجي الأبرز (القطري، السلفي الكويتي "غير الرسمي"، والسعودي) ، فالمؤشرات القادمة من حلب وإدلب على وجه الخصوص تكشفُ عن تنامي الهيمنة التركيّة لجهة هيكلة المجموعات. ضمن هذا الإطار يبرز الصعود المستمر، و«التمدّد» المتتالي الذي يحقّقه «أصدقاء تركيا» في الشمال.
تجربة «حرب المعارضة ضدّ داعش» أثبتَت نجاعتَها كوسيلةٍ لتلاحم المجموعات مصلحيّاً، وبدافع من «الحفاظ على البقاء». كذلك أثبتت في الوقت ذاته أنّ محاولة أي كيانٍ «شقّ المسار» المرسوم له يُمكن التصدي لها بعزله عن باقي الكيانات، ثم الاشتغال على إدارة الصراع. وكما كان تعاظم قوّة تنظيم «الدولة الإسلاميّة» ورقةً لحشد الآخرين في مطلع العام الماضي بإشراف سعوديّ حينها (الأخبار/ العدد 2243)، يبدو «بعبع النصرة» ورقةً مماثلةً تُلعب الآن، وبإشراف تركي هذه المرّة. ومن المفيد التّذكير بأنّ «النّصرة» تُركت وحيدةً في مواجهة «داعش» بعد اشتعال «الحرب الأهليّة الجهاديّة»، حتى إنها شارفت على الامّحاء، قبلَ أن يُعاد إحياؤها تحت عيون الأتراك وبملاصقة حدودهم ( في إدلب).

من السعوديّة إلى تركيّا: حوِّل

أحداثٌ مفصليّة كانت قد مهّدت لمرحلة الإشراف السعودي، من أبرزها اغتيال قائد لواء التوحيد عبد القادر الصالح (الأخبار/ العدد 2162)، ثمّ الإعلان عن تشكيل «الجبهة الإسلاميّة»، الذي سبق الحملة المُعارضة ضدّ «داعش» بشهر وبضعة أيام فقط. المرحلة نفسها كانت قد شهدت صعوداً لنجم مجموعات معيّنة من أبرزها «جبهة ثوار سوريا». وفي تحوّل لافت للانتباه، أفرزت الشهور الأخيرة أفول نجم «ثوار سوريا».
تحتفظ أنقرة بورقة في حلب المتمثلة في «الألوية التركمانيّة»
كذلك تراجع رصيد «الجبهة الإسلاميّة» التي أفضت المجرياتُ إلى شبه تفكّك لها، فاندغم «الجناح الشمالي» منها في كيانٍ أكبر يقف الأتراك وراء تشكيله وهو «الجبهة الشاميّة». أمّا جنوباً (وخاصة في ريف دمشق) ، فانفرد «جيش الإسلام» بقراراته وبياناته ومعاركه (واستمرّ محسوباً على السعودية)، فيما أفضى اغتيال قادة «حركة أحرار الشام الإسلاميّة» (على رأسهم أميرها حسان عبود) إلى حلول قيادة جديدة مرضيٍّ عنها تركيّاً، في تكرار مثير للانتباه لمآلات اغتيال الصالح، مع اختلاف الجهة المستفيدة وترجيح البعض وقوفها وراء الاغتيال في الحالتين (السعودية في حالة الصالح، وتركيا في حالة عبّود).

«الأحصنة التركيّة» في الشمال «تتمدّد»

منذ دخول محافظة حلب على خط التسلّح، تحتفظ أنقرة بورقة حصريّة فيها، وتتمثّل في «الألوية التركمانيّة»، (الأخبار/ العدد 2240)، إضافة إلى حظوتها بنفوذ كبير على مجموعات أخرى مثل «حركة نور الدين زنكي»، وما تبقّى من «لواء التوحيد» الذي ورث قيادته عبد العزيز سلامة. الأخير كان يعمل قبل الأزمة نحالاً عند آل رمضان، وتربطه علاقة وطيدة مع أحمد رمضان، عضو الهيئة السياسية لـ«الائتلاف الوطني السوري»، والمقرّب من المراقب العام السابق ورئيس كتلة حلب في جماعة الإخوان المسلمين، علي صدر الدين البيانوني. هذه المؤهلات تبدو كافيةً للحظوة التي نالها سلامة إبّان تشكيل «الجبهة الشّاميّة» الشهر الماضي، فتربّع على رأسها. وهي التي ضمّت «الجبهة الإسلامية، حركة نور الدين زنكي، جيش المجاهدين، تجمّع "فاستقم كما أُمِرْت"، وجبهة الأصالة والتنمية». والأخيرة بدورها واحدةٌ من المجموعات المحسوبة في واقع الأمر على «الإخوان». كذلك انضمّت أخيراً «حركة حزم» إلى صفوفها، بعد معاركها الأخيرة مع «النصرة»، لكنّ مصدراً من «الشّامية» أكّد أمس أن «الحركة لم تقبل انضمام حزم كحركة، بل قبلت أفرادها بوصفهم أفراداً، ووفقَ ميثاق يصدر قريباً». ولا يبدو أن «تمدّد الشاميّة» سيتوقف عند هذا الحد، إذ تؤكد مصادر عدّة وجود جهود لضم مجموعات أخرى إلى صفوفها، ومن بينها «الفرقة 16» التي تشابهت الظروف بينها وبين «حزم» لجهة اشتباكها مع «النصرة». لكنّ الحديث يدور عن ضمّ معظم مكوناتها باستثناء «لواء شهداء بدر» الذي يصرّ كثير من الجهات المُعارضة على اعتباره «صنيعة المخابرات الجويّة في حلب» وتعتبر قائده خالد حيّاني «عميلاً للنظام». كذلك، شهدت الأيام الأخيرة «تمدداً» لأحد أبرز «الألوية التركمانيّة»، حيث أعلنت مجموعات عدّة، يوم السبت الماضي، «اندماجها الكامل تحت مسمى الفوج الأول مشاة» وانضمامها إلى «لواء السلطان مراد».

أدوات اللعبة

الأدوات المُستخدمة في إدارة المجموعات وتوجيهها كثيرة، على رأسها يأتي التمويل وإمدادات الأسلحة، كذلك تقديم التوجيهات التي تصل أحياناً للإشراف المباشر على بعض العمليات والمعارك، ومنح الامتيازات لمجموعة بعينها يُراد إبرازُها (مثل تسليم معبر باب الهوى أخيراً لحركة أحرار الشام». وتلعب التصفية والاغتيالات دوراً مؤثراً في بعض الأحيان. وتجدر الإشارة إلى أن وجود التنظيمات «الجهاديّة» يبدو ضرورةً أساسيّة، ويتم التحكم في مؤشرات قوّة هذه التنظيمات صعوداً وهبوطاً وفقاً لما تقتضيه الحاجة. ومن أبرز الأمثلة الفاعلة في هذا السياق «غرفة الموك» التي راجت أنباء عن كونها وسيلة لمحاربة «الجهاديين» ولإقصائهم، فيما مهمّتها الفعليّة إدارة توازنات القوى وتوزيع الأدوار بين «الجهاديين» و«المُعتدلين»، عامدةً إلى تقوية أحدهما وإضعاف الآخر وفق متطلّبات المرحلة.

المشهد المستقبلي

في المحصلة، يبدو المقاتلون المعارضون في الشمال السوري سائرين على طريق الانقسام إلى فسطاطين، تحت أعين الأتراك: فسطاط تنظيم القاعدة في بلاد الشام (جبهة النصرة)، وفسطاط آخر يضم الجماعات الإخوانية والتركمانية وسائر القوى المدعومة من تركيا والسعودية وأميركا، مع ترك الباب مفتوحاً أمام احتمالين اثنين، أوّلهما حدوث تنسيق أكثر فعالية بينهما، وثانيهما التمهيد لـ«حرب أهليّة مُعارضة» ثانية، على غرار سابقتها، ما يجعل من اشتباكات أمس الجانبية بين "الجبهة الشامية" و"النصرة" (في بلدة ميزنار في ريف حلب الغربي) مجرّد جسّ نبض أولي.




في خطوة لافتة للانتباه، قام «رجل النصرة القوي» أبو ماريّا القحطاني أخيراً بـ«مغازلة» أنقرة، وجماعة الإخوان المسلمين، والرئيس المصري المعزول محمد مرسي. القحطاني أكّد عبر «تغريدات» متتالية على صفحته في «تويتر» أن «بعض مفتي السلاطين أفتوا بتحريم الإخوان واتهامهم بأن (تنظيم) القاعدة خرج من رحم الجماعة، وهذه فتاوى مسيسة». كذلك أكد أن حرباً تُشن ضد تركيا «بأمر من الغرب بسبب موقف تركيا من ثورة الشام. (...) موقف الشعب التركي المسلم واضح من ثورات المظلومين، ومن باب الإنصاف كذلك حكومة تركيا قدمت لأهلنا السوريين ما لم يقدمه العرب الذين يدّعون الأصالة».