تقوم السرديّة الوجوديّة الإسرائيليّة التي تأسّس عليها الكيان الاستيطانيّ (في صورته الحداثيّة: "الدولة") على ركيزتين أساسيّتين:1. مكانيّة: باعتبار"إسرائيل" كيانًا استيطانيًّا إحلاليًّا، قام على طمس و/أو حذف الفلسطينيّ من مكانه/ أرضه، بالمذابح والقتل والتهجير، (والذي تطوّر أداتيًّا على يد الدولة الحديثة وأدواتها المدينيّة، بنفس المنطق الحاكم) وذلك لهندسة "مكان" يُعدّ تمثيلًا لمقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

2. زمانيّة: بأن تقدّم "إسرائيل" نفسها باعتبارها امتدادًا "طبيعيًّا" للنسيج التاريخيّ للمنطقة، وتطورًا طبيعيًّا زمانيًّا للمجتمع "اليهوديّ" الذي وُجِد في تلك البقعة المكانيّة ــ الخالية من الفلسطينيّين ــ منذ قرون، وأنّها حالة طبيعيّة من التطوّر الاجتماعيّ المدينيّ، له ثقافته التعبيريّة وهويّته المرتبطة بمكانه الجغرافيّ، وبنسيجه الاجتماعيّ إقليميًّا، وليس ثقافاتٍ لمجتمعات مُستجلبة من أماكن مغايرة.
عبد الله البياري
لا يمكن مقاربة ازدواجيّة المقاطعة والتطبيع بعيدًا عن هاتين الركيزتين، وما بينهما من تفاصيل وأدوات وقنوات إجرائيّة، تمثّلها "الدولة الحديثة" كالتأشيرات والتصاريح والمعابر والمؤسّسات وغير ذلك؛ وإلّا باتت المقاطعة و/أو التطبيع كتلة صمّاء، ذات ماهيّة صلبة غير قابلة لأن تتواءم أو تتفاعل مع حيثيّات المواجهة مع الاحتلال ودولته، غير قابلة للتفكيك والتركيب، بنيتها حدّيّة حاسمة: مع أو ضدّ، ما يلغي فاعليّتها أو يحجّمها كثيرًا، وهو ما تمرّ به كل تداول إشكاليّة المقاطعة والتطبيع، عربيًّا.
مع كلِ زيارةٍ لإحدى الشخصيّات العامّة العربيّة لفلسطين المحتلّة، تتجدّد تلك الإشكاليّة. فهذا النوع من الزيارات يأتي ليحقق للكيان المحتلّ فرضيّته الثانية ويؤكّدها وهي "الاستمراريّة الزمنيّة"، فإسرائيل تدّعي أنّها امتداد تاريخيّ للطوبوغرافيا الثقافيّة والاجتماعيّة للإقليم/ المكان، فنرى ادّعاءها أنّ "الفلافل" و"الكنافة" و"الحمّص" وبعضًا من "التطريز العربيّ الفلسطينيّ" و"الموسيقى العربيّة" (والشواهد هنا كثيرة)، هي انعكاس لتلك الرؤى المدّعاة. وبالتالي، فتلك الزيارات لا تنتهي بحال من الأحوال إلّا إلى تأكيد هذه الاستمراريّة والترابط الثقافيّ بين دولة الاحتلال وسياساتها الثقافويّة والاجتماعيّة الاستيطانيّة العنصريّة الممأسسة؛ باعتبار الثقافة فعلًا مؤسساتيًّا لدى الدولة الحديثة من ناحية، والتعابير الثقافيّة العربيّة في المحيط العربيّ من ناحية أخرى، تلك التي (يجب أن) تُعبّر عن هموم الجماعة العضويّة، ومقاومة الاحتلال (وسرديته) أحدها.
إنّ زيارة أيّ مواطن عربيّ أو أيّ جهة أو أفراد أو مؤسّسات وتعامله مع دولة الاحتلال، لا تكون من دون المرور من خلال المؤسّسة الإسرائيليّة (الدولة الحديثة)، إلّا أنّ هذا المرور هو مرور "لا مواجهة" فيه على عكس ما يدّعي البعض.
ثمة شعارات تطبيعية ثقافويّة رنّانة كالقول "معًا لإلغاء التأشيرة بين الدول العربيّة" (قيلت كشعارٍ لأمسيةٍ شعريةٍ في الناصرة، لشاعرٍ مصريّ)، هي عبارة تبدو حدِّيّة لأنصار كِلا المعسكرين المقاطعة والتطبيع، ما يستلزم إمّا التصديق عليها بالكليّة بناءً على طوباويّة فارغة وجهل بالواقع، أو الشيطنة والرفض الحاسم لها لأسباب مقابلة.
تلك عبارة مؤسرلة إذا ماحلّلناها بناءً على الركيزتين السابقتين: الزمنيّة والمكانيّة؛ فهي تحقّقهما معًا: (زمانًا) باعتبار أنّ الثقافة هي أوّلًا آليّة تعبير عن مجموعة من الأفراد في زمن معيّن وكيفيّة تعاملهم مع همومهم اليوميّة، وهو هنا "زمن" الاحتلال، وثانيًا أنّها تمرّ في حالتنا ها هنا من خلال الدولة ومؤسّساتها التي تتحكّم في "زمن" تلك المجموعة؛ هذا من ناحية؛ ومن أخرى فـ(مكانًا)، تقوم تلك العبارة على اعتبار "الدولة الإسرائيلية" مكاناً يجب إزالة التأشيرات معه، على حالته "الاستيطانيّة الإحلاليّة" تلك، أي بعدما أُزيلَ الوجود الفلسطيني منه، واعتباره ــ ذلك الكيان ــ مجرّد امتداد طبيعيّ للبلاد العربيّة وجب تطبيع العلاقة معه إلى حدّ إلغاء التأشيرة، أي إزالة العائق الإجرائيّ الذي يحول دون حريّة (حركة/ تنقّل) الفرد في المكان/ الجغرافيا، فإذا نظرنا إلى مفهوم حريّة الحركة في المكان في بنية الاحتلال، أمكننا فهم خطورة تلك المقولة، إذ إنّها تُطبّع سيطرة المؤسّسة الاحتلاليّة على الجسد والمكان الفلسطينيّين قمعيًّا، وكذلك مع علاقة الجسد العربيّ في باقي أماكنه (بلاده)، يذكر الكاتب الفرنسي هنري ليفيبر في كتابه "إنتاج المكان": "أنّ مدنيّة الدول وتحضّرها يقاسان بكم الحريّة المتاحة للجسد في حركته في المكان بأقلّ مستوى من القوى الواقعة عليه"؛ وبالتالي فتطبيع تلك العلاقة هو عمليّة غسيل وتبرئة للكيان الاحتلاليّ تجاه "فلسطينيّي الداخل المحتلّ من ناحية" الذي يقوم "بالسيطرة" على حقّهم بالحركة بناءً على هويّتهم العرقيّة (نظام فصل عنصريّ)، وإبراءً له من طمس وإلغاء الوجود الفلسطينيّ السابق على قيام الدولة (النكبة)، وإبقائه خارج هذا، مكانه وزمانه الفلسطينيّين (حقّ العودة).
في المقابل، ولتفكيك الركيزة الأولى المتعلّقة بالمكان، نرى بأهميّة وجود الفلسطينيّ في "مكانه"، إذ بإمكانه مواجهة المؤسّسة الإجرائيّة للدولة مستخدمًا أدواتها، وبالتالي مشكّلًا جبهة تراكميّة للمواجهة؛ فمثلًا، ابن يافا الذي ولد لجيل أوّل أو/و ثانٍ في المنفى والشتات، له أن يكون في مكانه وأرضه (ليس بمنطق العائد إلى صفد سياحةً، طبعًا)، من خلال إعلان المواجهة مع الدولة التي قامت وجوديًّا على نفيه، وأنّه كفرد وبشكل ماديّ يمكنه مواجهتها وإجراءاتها النافية بأن يكون في "مكانه/ حكايته" الذي انتُزع منه، وأن يتوالى ذلك الإرث في الأجيال المنفيّة وكأنّه حالة حصار للعدوّ، أيّ أنّ استخدام أدوات الدولة ها هنا، "التأشيرة" هو استخدام مواجهاتيّ أوّلًا، وتراكميّ ثانيًا.
وأمّا إذا تحقّق الشرط الثاني، وهو انعدام الزيارات التطبيعيّة، فهذا كفيل بأن يكسر الادعاء الإسرائيليّ بالاستمراريّة الطبيعيّة مع المكان/ الجغرافيا الإقليميّة العربيّة، وكذلك مع الزمان وآليّاته كالثقافة والحداثة والمؤسّسة وإجراءاتها، جاعلًا الجغرافيا الاستيطانيّة جغرافيا معزولة عن محيطها، مكانيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وبالتالي تغدو الحكاية الإسرائيليّة منفصلة عن مكانها المدعى/ المُحتلّ.
لكن، تظلّ فكرة "التواصل" وما تحمله من جاذبيّة تغشي الأبصار، لها أثرها، وبالذات أنّها تنبني على افتراض قائم بأنّ "التطبيع"، قناة للتواصل الوحيدة مع فلسطينيّي الداخل المحتلّ، مشروع.
الفلسطينيّ ابن الجيل الأوّل أو الثاني للمنفى ليس فلسطينيًّا خالصًا من ناحية الهُويّة، طبعًا بالمنطق الحواريّ بين الهُويّات وليس الإقصائيّ، فالهُويّة ليست كتلةً مصمتةً، وإذا استعرنا مفهوم أمين معلوف عن الهُويّة، غدت الهُويّة تركيبات متعدّدة من أنَوات( جمع أنا) مختلفة، كلّما ازدادت الأنَوات ازدادت الهُويّة عمقًا وانتماءً. فالفلسطينيّ ابن يافا المصريّ، الذي رفرف قلبه عندما أزيل العلم الإسرائيليّ من أعلى بناية السفارة الإسرائيليّة في القاهرة، والفلسطينيّ التونسيّ الذي احتفل بهروب الطاغية، وغيرهم، لا يمكن لأحدهم أن يكون في فلسطين/ مكانه/ حكايته خاليًا من بقيّة عناصر عروبته/ هُويّته، هو يأتي حاملًا هموم وأفكار ونبضات حاضنته المنفويّة ومعبرًا عنها وعن لغتها بما حملت، وبالتالي يغدو نافذة الداخل المحتلّ على جغرافيّته العربيّة ومجتمعاتها وثقافاتها، محققًا تواصلًا حيًّا ونابضًا بشقّيه الفلسطينيّ والمنفويّ.