يبدو أن صدى العملية الإرهابية التي وقعت في فرنسا لا يزال يتردد في بريطانيا؛ فالنقاش حول الإجراءات الأمنية القائمة يحتل المكانة الأولى في وسائل الإعلام البريطانية ووسائل التواصل الاجتماعي، ويطغى حتى على الانتخابات البرلمانية في أيار/مايو المقبل. ويزداد النقاش سخونةً مع كل معلومة أو حدث جديد. ويهيمن الآن على الساحة البريطانية خبران رئيسيان، الأول هو هرب ثلاث مراهقات بريطانيات، أعمارهن 15 و16 عاماً، الأسبوع الماضي، من لندن إلى إسطنبول للانضمام إلى «داعش» في سورية، والثاني يتعلق بالشاب البريطاني الذي عُرف باسم «الإرهابي جون»، الذي ظهر في عدد من مقاطع الفيديو الخاصة بتنظيم «داعش» وهو يلوّح بسكين ويوجه رسائل تهديد للحكومتين البريطانية والأميركية.
وبالنسبة إلى الخبر الأول، تشير تقارير مراكز بحوث بريطانية إلى أن ما يصل إلى 20% من الأوروبيين المنضمين إلى صفوف «داعش» هم من النساء. وتشير التقارير أيضاً إلى أن التنظيم استطاع بالفعل القيام بعمليات تجنيد واسعة لاستدراج النساء الأوروبيات إلى سورية، وذلك باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي والمدونات الإلكترونية. وفي كثير من الأحيان تتولى نساء أوروبيات مقيمات مع «داعش» عملية التجنيد والإقناع هذه. أما حول دوافع هؤلاء النساء للقدوم إلى سورية، فتشير استطلاعات الرأي إلى أن أنها متنوعة، وتشمل البحث عن زوج، والهروب من ضغوط الحياة في المجتمع البريطاني، والبحث عن التشويق والعنف في تلك المنطقة الساخنة من العالم، إضافةً إلى الوعود التي يقدمها التنظيم من قبيل توفير مسكن ومرتب شهري.
أما الحادثة الثانية، حادثة «الإرهابي جون»، فقد كشفت آخر التحقيقات أن هذا الإرهابي البريطاني هو في الحقيقة شاب عربي يحمل الجنسية البريطانية وينتمي إلى عائلة ثرية تقيم في ضواحي غرب لندن الراقية، وهو يحمل شهادة من جامعة «ويستمنستر» في لندن، في «برمجة الحاسوب». وبحسب التقارير، فإن «محمد إموازي»، الشاب المتفوق دراسياً ذا السبعة والعشرين ربيعاً، قد بدأ مسيرته نحو التطرف منذ حوالى عشر سنوات. إلا أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت عام 2010، عندما اعتقل مع صديقين له في «تنزانيا»، بمجرد وصولهم إليها بحجة السياحة، للاشتباه في أنهم ينوون الانتقال إلى الصومال للانضمام إلى المقاتلين هناك. وقد كشفت التقارير أن محمد وأصدقاءه تعرضوا للتهديد بالضرب من قبل المحققين في تنزانيا، قبل أن يتم ترحيلهم الى هولندا حيث قام جهاز المخابرات البريطانية «MI5» بالتحقيق معهم قبل أن يعيدهم إلى بريطانيا في اليوم التالي، ويبلغهم أنهم ممنوعون من السفر إلى أي بلد مسلم. وقد كشف أصدقاء «محمد إموازي» أنه كان يتذمر من المراقبة اللصيقة للمخابرات البريطانية، التي منعته أيضاً من السفر إلى مسقط رأسه في الكويت، حيث كانت عائلته قد رتّبت له زواجاً وعملاً جيداً. إلا أن «إموازي» قد نجح بالفعل في الهرب إلى سورية عام 2012. ويعتقد محرر الشؤون الدفاعية في صحيفة «الإندبندنت»، كيم سينغوبتا، أن إموازي وبريطانيين آخرين يقومون بقيادة قسم «الحرب السايبيرية» التابع لتنظيم «داعش».
وبالرغم من أن هذه التقارير قد أثارت بعض الانتقادات من قبل ناشطي حقوق الإنسان في بريطانيا ضد ممارسات أجهزة الأمن البريطانية، التي يقولون إنها قد تكون السبب في دفع بعض المسلمين البريطانيين إلى التطرف، فإن ردود فعل رجال الأمن البريطانيين والسياسيين، في الحكومة والمعارضة، جاءت موحدةً ورافضةً لهذه الانتقادات. حيث دافع الرئيس السابق لجهاز المخابرات السرية البريطانية «MI6» عن أجهزة الأمن البريطانية وعن الإجراءات التي تقوم بها بحق المشتبه فيهم، ولا سيما عندما تدعو الضرورة إلى الحصول على معلومات استخبارية ذات صلة بأحداث جارية، أو بعمليات إرهابية وشيكة. وأضاف السير جون سوورز، في تصريحاته لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، يوم السبت، أن التعذيب قد وفّر لأجهزة الأمن البريطانية معلومات مهمة للغاية ساهمت في إحباط عمليات إرهابية. ومن هذه الأمثلة، بحسب الرئيس السابق للمخابرات البريطانية، محاولة تنظيم «القاعدة» في اليمن تفجير طائرتين فوق الولايات المتحدة عام 2010، حيث أخفيت العبوات المتفجرة داخل «محابر طابعة» تم شحنها من اليمن عبر شركة الشحن الأميركية الشهيرة UPS وتم توقيت العبوات لتنفجر عندما تصبح الطائرات فوق الأراضي الأميركية. يشرح الرئيس السابق فيقول إن «المعلومات التي تم انتزاعها من أحد عناصر القاعدة المحتجزين في السعودية، بواسطة التعذيب، هي التي مكّنت رجال الأمن البريطانيين من الوصول إلى العبوات المتفجرة وإبطال مفعولها في الوقت المناسب، وإن واحدة من العبوات قد جرى إبطال مفعولها قبل 17 دقيقة فقط من الانفجار».
اللافت أكثر للنظر هو موقف المعارضة البريطانية التي دافعت بدورها عن أجهزة الأمن البريطانية؛ فقد صرحت إيفيت كوبر، وزيرة الداخلية البريطانية في حكومة الظل، وهي الحكومة التي تشكلها الأحزاب البريطانية خارج الحكومة لمراقبة أداء الحزب الحاكم، بأنها تتفق في الرأي مع الرئيس السابق للمخابرات البريطانية، ولا سيما حول ضرورة إلزام شركات الإنترنت والاتصالات بالتعاون مع أجهزة الأمن وتقديم معلومات حول المستخدمين المشتبه فيهم.
كلام وزيرة الداخلية في حكومة الظل لم يتوقف هنا. فقد انتقدت أيضاً الإجراءات التي قامت بها حكومة حزب المحافظين منذ عام 2010، والتي أدت، بحسب وصفها، إلى تقييد أيدي أجهزة الأمن البريطانية، ما سمح بانتقال أعداد كبيرة من البريطانيين إلى الشرق الأوسط للانضمام إلى «داعش». وتطالب كوبر بإعادة تطبيق بعض الإجراءات المحظورة حالياً، ومنها، على سبيل المثال، صلاحية تغيير موقع الأفراد الذين يشتبه في أنهم يعيشون أو يعملون بالقرب من شبكات متطرفة. وأضافت الوزيرة أن «الإجراءات النافذة حالياً غير كافية؛ فمن أصل مئات من المتطرفين الذين غادروا بريطانيا إلى الشرق الأوسط لم يكن هناك سوى شخص واحد على قائمة المراقبة البريطانية».
وقد أثارت الانتقادات التي وجهتها وزيرة الداخلية في حكومة الظل نقاشاً داخل التحالف الحاكم حول ضرورة فرض قيود على حرية التعبير والنقاش في الجامعات البريطانية، بما في ذلك حظر نشر الآراء المتطرفة وكراهية الآخرين، التي قد تسمح بتجنيد أصحاب الفكر المتطرف. والدافع لهذا النقاش هو التقارير التي أشارت إلى «محمد إموازي»، الطالب المتفوق، إنما قد بدأ مساره نحو التطرف خلال دراسته الجامعية في جامعة «ويستمنستر».
وهكذا، بالرغم من القضايا العديدة التي تختلف حولها الحكومة والمعارضة في بريطانيا، ولا سيما مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، يبدو أن الأمن هو القضية الوحيدة التي تحظى بإجماع الطرفين، والتي تكشف نقاشاتهم حولها أن ضرورات الأمن تبيح محظورات التعذيب والمراقبة، وتسبق كل شيء آخر، بما في ذلك حريات الأفراد في التعبير. فلماذا إذاً لاتزال بريطانيا تقدم الرعاية والحماية لأصحاب الآراء المتطرفة من المعارضين السوريين وغيرهم؟