«تنظيم القاعدة» يواصل الازدهار في سوريا على مرأى الجميع. الفرع السوري للتنظيم، والمتمثل في «جبهة النصرة»، حقّق انتصاراً جديداً، أسفر عن تقويض «حركة حزم» وما مثلّته من رهاناتٍ «مُعتدلة» هُلّل لها طويلاً، مع الأخذ في عين الاعتبار أن اعتدال «الحركة» البائدة لم يكن في حقيقة الأمر سوى إعادة تدويرٍ لمجموعات وأشخاص يغلب عليهم الهوى «الإخواني»، وفقاً لمتطلبات المرحلة السابقة (الأخبار/ العدد 2300).
وبات معروفاً أنّ المظلّة الغربيّة (الأميركية على وجه الخصوص) التي ظلّلت «حزم» لم تقتصر بركاتُها على التلميع الإعلامي، بل تعدّته إلى تزويد الحركة بأسلحةٍ أشدّ فاعليةً ممّا كان متوافراً في أيدي مجموعات أخرى، وتدريب «كوادر الحركة» على استخدامها. وعلى رأس تلك الأسلحة صواريخ BGM-71 TOW الأميركية المضادة للدروع، والمعروفة اختصاراً بـ«تاو»، التي باتت متوافرة في أيدي مجموعات عدة (الأخبار/ العدد 2474). في ظل المعطيات المذكورة، يبدو من المتعذّر القبول بفكرة أن تصفية «حزم» تمّت خلافاً لرغبة رعاتها السابقين. ومن المُرجّح أن هؤلاء قد قرّروا غض النظر عن تحرك «النصرة» لإبادة ربيبتهم السابقة، سواءٌ لأن متطلبات وجودها زالت، أو لأنّها كانت أضعفَ من النهوض بالدور الذي رُسم لها. ورغم تشابه المصير بين «حزم» و«جبهة ثوار سوريا» التي كانت بدورها لقمة سائغة لـ«النصرة» في وقت سابق، غير أن «ثوار سوريا» ما زالت تحظى بوجود على الأرض عبر مجموعات و«كتائب» في جبهات أخرى.

«تدوير» المسلحين مستمر

بلغت خسائر الطرفين البشرية وفقاً لأدق التقديرات 121 قتيلاً، كان نصيب «النصرة» منهم 53 قتيلاً، فيما جُرح خلال المعارك حوالى 140 من الطرفين. خروج «حزم» من المعادلة لا يعني بالضرورة خروج مسلّحيها من المشهد، فتداول المسلحين بين المجموعات باتَ أمراً معهوداً. ووفقاً لبيان حل «حزم»، فقد ورثَت «الجبهة الشاميّة» (قريبة من «الإخوان المسلمين» وتحظى برعاية تركية مباشرة) من تبقّى من مسلّحيها. البيان المقتضب الذي صدر أمس قال إنّه «نظراً لما تمر به الساحة الشامية من تغول النظام المجرم وأذنابه في بلاد الشام عامة، وعلى حلب خاصة، وحقناً للدماء، قررت الحركة حل نفسها واندماج جنودها بفصيل الجبهة الشامية». ووفقاً لهذه التطورات، تكون «الشاميّة» قد كسبت وافدين جدداً. أما «النصرة» فقد «تمدّدت» على الأرض، حيث بسطت سيطرتها على مقارّ «حزم» في الفوج 46 (المجاور للأتارب)، وميزناز، وكفرنوران، والمشتل، وريف المهندسين الثاني، فيما كانت «مجموعة القطاع الشمالي في حزم» قد استبقت البيان بإعلان انشقاقها، والتوجه إلى أحضان «كتائب ابن تيميّة». الأخيرة كانت بدورها قد انسلخت عن «جبهة الأصالة والتنمية» نتيجة «خلافات تتعلق بغنائم وادي الضيف»، وفقاً لمصادر مُعارضة. أمّا قائد «مجموعة القطاع الشمالي» المعروف باسم أبو جلال شادح فقد كان سابقاً «مبايعاً» لتنظيم «داعش»، قبلَ أن يختار نقلَ «البيعة» إلى «النصرة»، ثمّ غادرها للمساهمة في تشكيل «حركة حزم»، وليستقرّ به المقام أخيراً في «كتائب ابن تيميّة».

... و«النصرة» لا تنوي التوقف

«جبهة النصرة» أصدرت بياناً بخصوص التطورات أعلنت فيه «انتهاء عملية الفوج 46 عسكريّاً». غير أن البيان حمل في الوقت نفسه مسوغات يمكن استغلالها لمزيد من «التمدد» وفرض الهيمنة على الأرض. البيان أكّد الاستمرار في «ملاحقة رؤوس وقيادات تلك العصابة المجرمة حتى ينالوا جزاء ظلمهم وبغيهم». وقال إن مجرد الانتماء إلى «حزم» في الفترة السابقة «لا يعد جرماً يُعاقب عليه، وإنما سيُحاسب فقط من يثبت عليهم إجرام بحق المسلمين والمجاهدين». وبدا لافتاً أنّ البيان لم يُقم وزناً لإعلان «حزم» انضمام مقاتليها إلى «الشّاميّة»، إذ رأى أن السبيل للخلاص من ملاحقة «النصرة» هو في تسليم المقاتلين أنفسهم لـ«التحاكم عبر دار القضاء أو الهيئة الشرعية»، ليُصار إلى إطلاق من «يُثبت القضاء الشرعي براءتهم من التلبس بجرم أو إصابة دم بغير حق، (...) بشرط أن يوقّع هؤلاء على تعهُّدٍ بمتابعة جهادهم، وعدم القتال مرة أخرى إلى جانب المفسدين المجرمين». كذلك طالب البيان بـ«تسليم جثث الشيخ أبي عيسى الطبقة والأخوين أبي الجراح وأبي مالك الحمصيين (...). وتبيين مصير كل من تم خطفهم من جنود جبهة النصرة وغيرهم من المجاهدين»، إضافة إلى «تبيين مصير أبي أنس الجزراوي، التابع لمركز دعاة الجهاد». مصدرٌ مرتبط بـ«النصرة» قال لـ«الأخبار» إنّ «هذه مطالب حق، فالنصرة ما خاضت هذه المعركة إلا لإحقاق الحق». المصدر أكّد أن «انضمام أيّ كان إلى أيّ فصيل لا يعني إعفاءه من حكم الشرع ومن تطبيق الحد إذا كان قد ارتكب ما يستوجب الحد»، وأضاف «هذا حكم الله، وما كان للنصرة أو الشاميّة أو سواهما أن يحول دون إنفاذه».

..أهالي الأتارب تحت الحصار

في خضم التطورات، يرزح أهالي مدينة الأتارب تحت حصار تفرضه «جبهة النصرة». ورغم أنّ الأخيرة كررت في بيانها تقديم التطمينات إلى الأهالي، غيرَ أنّ قيامها باقتحام المدينة بذريعة «ملاحقة مجرمي حزم» لا يبدو أمراً مستبعداً. ومن المرجّح أن تعمد «النصرة» إلى تخيير السكّان بين حلين: دخول المدينة «طوعاً»، أو اعتبارهم «متسترين على المُفسدين»، ما يفتح الباب أمام اقتحام المدينة التي تؤوي ما لا يقل عن خمسين ألف مدنيّ. ويُعتبر موقع الأتارب استراتيجيّاً بالنسبة إلى «النصرة»، إذ تُشكل المدينة الواقعة في ريف حلب الغربي رابطاً بين هذا الريف وريف إدلب الشمالي، وعلى وجه الخصوص مدينة سرمدا المجاورة بدورها لمعبر باب الهوى. وسبق لـ«النصرة» أن سيطرت على مقار «حزم» في سرمدا نهاية الشهر الماضي (الأخبار/ العدد 2506).




«حزم» و«الجهاديون»: غرام وانتقام

كانت «حركة حزم» قصيرة العمر. لم تعش سوى ثلاثة عشر شهراً. وخلافاً لما رُوّج له طويلاً، لم تكن علاقات «الحركة» سيّئةً مع «الجهاديين». ورغم كل الحملات الترويجية لاعتدالها، فإن «الحركة» التي أُعلن تشكيلها في أواخر كانون الثاني 2014 لم تتوانَ عن المشاركة في «الهيئات الشرعية» حيناً، وعن التحالف مع «الجهاديين» حيناً آخر. في تموز الماضي كانت «حزم» و«النصرة» دعامتين أساسيتين لـ«قوة تدخل سريع لإنقاذ حلب». المفارقة أنّ «حزم» كانت في الأول من آذار من العام الماضي واحداً من مكوّنات «غرفة عمليات الفتح المبين لقتال الكافرين»، مع كلّ من «حركة أحرار الشام» و«حركة فجر الشام»، و«جبهة النصرة»، وجميعها مجموعات «جهادية». وها هي في الأول من آذار (ولكن بعد عام كامل) تُعلن حلّ نفسها مهزومةً أمام حلفاء الأمس.