زمن الأصنام

مرأب ام مركز تجاري وثقافي؟ احتار اصحاب المصلحة والسلطة كيف سيستفيدون من ساحة التل، هذه المساحة الصغيرة بحجمها والكبيرة بمعانيها وأهميتها في المدينة الشمالية المنهكة بقضم لصوص العصر لمقدراتها، وبحرمانها المستمر مواردها، وتجويع ابنائها وتجهيلهم لاستتباعهم وفق نظرية "فقّر تسد".

"فقّر تسد" و"جوّع كلبك بيلحقك".. هذه هي السياسة التي اتبعها متولو السلطة ومنهم من ابناء طرابلس شخصيا مع مدينتهم الام. تماما كما يتعاملون مع اللغة الام التي "ينقحونها" باعوجاج اللفظ و"بندقته" بالالفاظ الاجنبية. ربما اثباتا لمكانة طارئة، يظنون انها ستعلو بهم عن المتحدثين بتلك اللغة اليتيمة. ابناء عقوقون ربما راعهم لقب “ام الفقير”، الذي خُلع علي طرابلس، فبحثوا لانفسهم عن امهات المدن التي قد تليق بثرواتهم المحدثة.
وساحة التل، مرماهم، لا ترال برغم كل الاهمال جميلة. يسوّر قلبها الترابي سور بسيط يجلس على حافاته العابرون المنتظرون عملا او موعدا. يستقرئون وجوه العابرين وهم يشربون كوب قهوة بـ ٢٥٠ ليرة.. نعم لا يزال بامكانكم ان تشتروا شيئا بـ ٢٥٠ ليرة في طرابلس. ساحة التل ذاكرة وقلب المدينة. هنا ومن هنا يصل وينطلق كل عابر. منها تتفرع شرايين الاحياء الداخلية، فلا تفرق بين فقير وغني، بين قاصدي اسواقها العتيقة للفرجة او للتسوق او للتسكع. تعرف الساحة كل انواع البشر، هنا تشم رائحة الصحة في اجزاء من الوطن لا يزال نسيجها يسمح بمرور الناس قرب بعضهم بعضا. كل ما تحتاج إليه تجده هنا: من الكعكة الطرابلسية الشهيرة على بسطات الباعة الى الجرائد او المقهى او البنسيون او السينما او باعة الزهور او الخضار وحتى العطور.. وبالطبع الحلاب. الاصلي. والد كل الفروع. تركوا مسرح الآنجا لينهار او "انهاروه" بالاهمال. غير بعيد عن انقاضه، مواقف السيارات المقبلة الي طرابلس او الذاهبة الى انحاء الجغرافيا القريبة او البعيدة: حمص، حلب، الاردن، بيروت، حلبا، عكار، العريضة، الكورة، بشري، الارز، البترون الخ..
تتصاعد رائحة "فلافل الصوفي" القابع تماما تحت مركز "قصر نوفل" الثقافي، المتجمد ثقافيا منذ فترة طويلة. على بعد امتار موقف "بوسطات الاحدب" ومقابلها "فانات عكار ". مقابل المركز تقع “الماشية”، كما يلفظ بعض الاهالي كلمة “المنشية”، وهي الحديقة العامة الصغيرة التي لا يزال يتجول فيها بضعة مصوري "بولارويد" وكأنهم يتجولون في “ماشية” لم تعد موجودة الا في ذاكرتهم.
هنا ايضا يجلس البويجية وباعة الكعك والعصير والقهوة بالمصبات، وباعة بعض الالعاب التي تنتشر فجأة في كل مكان. هذه الايام اللعبة هي دبدوب يمشي بالبطارية ويقفز كالبهلوان. يربط البائع "زمبلك" اللعبة الصينية (لا شك)، ثم يتركها تمشي على الرصيف وتتشقلب. يبدو مبتهجا بها كطفل برغم انه رجل. ربما يعيش طفولة متأخرة لم يحظ فيها بهذه الفرجة.
فجأة تكالب الجميع على الساحة. كأنما عثروا فجأة على عظمة في زمن مجاعة، لا. لا يمكنني ان افهم كيف من الممكن ان يوافق مسؤول على تدمير قلب المدينة. لفتني في المتظاهرين احتجاج امام البلدية “المطواعة”، إعمار المتظاهرين واشغالهم: دكاترة جامعة، باحثون وأثريون.. اغلبهم في منتصف العمر او اكثر قليلا. انهم يفهمون ماذا يعني ذلك. تظاهرتهم اعادت الي الروح قليلا بعد تظاهرة "دواعش الشمال" رفضاً لاعادة تمثال رجل الاستقلال (مهما كان رأينا في هذا الاستقلال) عبدالحميد كرامي لوضع نصب لكلمة الله. كان لافتا بالمقارنة، ملاحظة من كانوا في التظاهرة الرافضة لازالة النصب تقريبا بالتهديد الصريح. كانت تظاهرة ذات مغزى عميق. بدا ان اولئك الزاحفين من الريف المجهّل لعقود، وكأنهم يدافعون عن رمز استيلائهم على المدينة. تثبيت للانتصار .. شديد الرمزية هذا العناد لابقاء نصب "الله" مكانه. شيء يشبه الكفر الصريح، فيما التزمت البلدية الصمت وعقفت ذنبها وانسحبت انسحاب المهزوم من المعركة.
ليس النصب البشع وحده المشكلة. فلبّ المشكلة في ابقاء لافتة تقول كفرا آخر. “طرابلس قلعة للمسلمين”. لا اكاد اطل على الساحة، وارى اللافتة ما زالت في مكانها، حتى يصعد الدم الى رأسي.
لا. طرابلس ليست قلعة المسلمين كما تقول اللافتة السوداء الكئيبة كآبة مضمونها. طرابلس ليست قلعة للمسلمين، والمسلمون في طرابلس لا يتحصنون فيها خوفا او نفورا من «غريب» مسيحي او علماني او مسلم معتدل اعتدال اسلام المدينة الطيبة طيبة ناسها. لا. طرابلس ليست قلعتكم، انها المدينة التي تحتلونها رافعين تعاويذكم المذهبية، اصنامكم الجديدة. هي المدينة التي تستبيحونها وتستبيحون اهلها بافعال تبدد اواصر الناس وتمزق نسيج الود بينهم. افعال تحاول الاختباء خلف صنم لكلمة يريدونها ان تفرق الناس لا ان تجمعهم، او راية داعشية تتستر باسم الجلالة، لكن اللفظ لا يخفي سوادها ولا سواد قلوب رافعيها. لافتات يقبع خلفها مجرمون ومجانين عظمة كهذا الخالد الضاهر ومعينه المرعبي، مجرمون يحولون بين اللقمة التي تأتي من الاستقرار وافواه اهل المدينة المستباحة. لا. لفظ الجلالة لا يصلح لان يكون صنما تدورون حوله، في حفلة جنون بدائية تليق بالزمن الداعشي، كما كانت قريش تفعل ايام الجاهلية حول هبل واللات. فطرابلس الطيبة الودودة تبسط صدرها للفقير من اينما جاء وقصدها، يشبع حليبا ممزوجا بأمومة يفتقدها من دولته الظالمة الفاسدة المنخورة كخشب عتيق بالسوس والديدان. ليس عن عبث ان يناديها حين يشبع بأمه. لا. طرابلس لا تحبكم، ولا تحب سلطة الزعران ولو احتموا تارة بالآيات القرآنية، وتارة أخرى بلافتات التبريك والتزعيم لزعران الدولة المستولين على مقاديرها، ناهبي حقوق الناس، والمتصدقين عليهم بفتات مقابل اصوات او خدمة في الدولة او على باب مستشفى هي من حقهم لكنها تباع لهم بثمن غال. هؤلاء ليسوا الا بثرة على وجه المدينة، طفرة على جلدها.
اهل طرابلس الصابرون، اولئك الذين يملأ الحزن عيونهم ويختم الصمت على افواههم كمساجين في معتقل عدو كافر، لا يحبونكم، ولو خضعوا خوفا واستسلاما ويأساً من دولة لا تحميهم. وكيف تحميهم وهي المستباحة المسبية بزمن دواعش السياسة.
لا. اهل طرابلس لا يشبهونكم، لكن الى متى هذا السكوت؟
حبيبتي طرابلس. يا ايتها الأم الصابرة على الزعران، متى تستفيقين من غيبوبتك؟ متى ستقولين مثلنا: لا.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

هالة هالة - 3/9/2015 1:52:10 PM

مقالة ممتازة وخاصة لغير أبناء طرابلس ولغير العالمين بمدى الأذى الذي سوف يلحق بساحتها الجميلة

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/9/2015 12:16:22 AM

لا يحبون الساحات فهي لم تعد تهتف بحياتهم و تحولت الى أماكن احتجاج عفوي او مسير من الخصوم. فلتتحول اذا الى مرآب او سوق يدر اهم الأموال التى تعوضهم عن حب الناس و تمكنهم من شراء الحشود في المناسبات. فلتذهب المدن الى الجحيم بعد ان أعادوا المشرق بمطارق و سيوف جهلهم الى زمن القبائل المتناحرة. ما هم ما دامت تقود سيارة مستوردة من وكالاتهم و التبضع من أسواقهم. و هذا يسمى تنمية و إعمار

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/8/2015 11:55:45 PM

شكرًا على الوفاء و الحب لطرابلس يا ضحى في زمن و بلد فقد هذه القيم بعد ان فقد ذاكرته. طرابلس ابنة عز ضيعها الجهل. نسي هذا الشعب العظيم انه صانع حضارة و صدق انه صانع أصنام. عسانا نستفيق قبل ان نضيع جميعا و نضيًع كل شيء.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

محمد محمد - 3/3/2015 5:45:20 AM

شكراً لتسليطك الضوء على تلك الساحة والمنطقة والمدينة المنسية المتعبة والمنهكة من أعمال بعض سكانها. منذ أن رأيت مجسم "الله" في تلك الساحة منذ سنوات، وأنا أجده نصباً بشعاً، بشكله وألوانه ونسبه الهندسية وحجمه الغير متناسق مع أبعاد الساحة. كلما شاهدته أحسست أن شيئاً ما يضرب على عصبي. نعم، نحن نعيش زمن الأصنام

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم