جئتُ إلى خندق الدولة الوطنية السورية من موقع المعارضة اليسارية. ففي وقت مبكر من «ربيع» عام 2011، اتضح المشهد في سوريا: لا ثورة ولا ثوّار، بل عدوان أميركي ــــ صهيوني ــــ رجعي عربي ــــ إرهابي، هدفه تحطيم الدولة العلمانية، الوحيدة، في العالم العربي، التي تملك منظومة انتاجية ومتحرّرة من الدّين العام، وتستند إلى جيش عقائدي معاد للصهيونية، وتختطّ، في السياسة الخارجية، نهج الاستقلال والمقاومة.
في معادلة كهذه، اضطررت، مع كثيرين من الرفاق، إلى طيّ صفحة الخلافات مع نظام الرئيس بشار الأسد في ملفات التحوّل الاقتصادي ــــ الاجتماعي نحو اقتصاد السوق النيوليبرالي، وما عشّش في البيروقراطية السورية من فساد، وسابق العلاقات مع تركيا وقطر، وما شهدته البلاد، تقليدياً، من تجاوزات على الحريات السياسية.
طبعاً؛ عندما يكون الخيار بين النظام السوري ــــ بقضّه وقضيضه ــــ وبين عملاء الاستخبارات المعادية وأمراء الطائفية والإرهاب، لا يعود هنالك مجالٌ للتردد في الاختيار؛ وحين يكون جوهر الصراع متمثلاً في تصفية الحسابات الاسرائيلية مع دمشق، لا يعود للأحرار والشرفاء، أيّ مساحةٍ للمعارضة في قلب العروبة النابض.
في ذلك الزمن الأسود من بدايات الربيع الأميركي في بلادنا، كانت التوقعات تنهمر على رؤوسنا، كل يوم وكل ساعة، بسقوط نظام الأسد، قريباً جداً، ربما غداً، ربما في اليوم الذي يليه، أو بعد شهر. وكان الكثيرون من التقدميين والقوميين لا يزالون مترددين، مضبوعين بمقدساتهم التقليدية حول «الحرية» و»الديموقراطية» و»الجماهير»... الخ من اللافتات التي كانت تخلب الألباب في الميادين، وتختبئ وراءها أنياب الإخوان المسلمين والظلاميين والإرهابيين (= الجيش ما بعد الحداثي للإمبريالية). معنى ذلك، أنني جئت إلى الخندق الدمشقيّ في لحظة تعرّضه للهجوم الشرس، وانقلاب القوى الانتهازية ضده، وتراجع القوميين واليساريين عن التصريح بدعمه؛ اخترتُ قضيتي ــــ التي كانت تبدو خاسرة ــــ انطلاقاً من ضميري المشرقي العربي اليساري، لا انطلاقاً من حسابات الربح والخسارة، التي ميزت علاقات «مثقفين» وصحافيين وسياسيين مع النظام السوري في عزّه.
علاقتي مع النظام السوري، مذ ذاك، بدأت، علاقةً نضاليةً؛ يؤكّد أرشيفي، خلالها، أنني كنت دائما إلى يساره، ليس، حسب، في الشأن الاجتماعي، وإنما، أيضاً، في عنوان المعركة التي أرى أنها معركة العلمانية والتحرر الوطني والمقاومة. هكذا، فبينما أتشرف بكوني أشتغل، في الفكر السياسي، على التنظير للدولة الوطنية السورية، ومستعدا لافتداء سوريا بحياتي، فإنني لم أكتب حرفاً واحداً بطلب من السوريين؛ لا هم طلبوا، ولا أنا أقبل طلباً ولا عتباً في ما أكتب. ولعل الجنبلاطيين لا يدركون الفارق بين شرف المثقفيّة وانحطاط الأبواق. وهنا، أحتفظ بحقي القانوني إزاء وصفهم لي بـ «البوق».
ثارت ثائرة الجنبلاطيين على مقالتي المنشورة في «الأخبار» (3 آذار 2015 ) بعنوان «جنوب سوريا؛ معركة الإقليم ولغز السويداء»، مشيرين إلى أنها تنطوي على تهديد للسيد وليد جنبلاط؛ فهل أملك أدوات تهديده؟ أم أنني أنقل هذا التهديد عن دمشق؟ أفليس، عندها، وسائل أخرى، من المفروض أن تكون سريةً، لتوصيل رسالة ما إلى السيد جنبلاط؟
أنا لا أنقل، في كتاباتي، رسائل. ولم يخطر على بالي، لحظة واحدة، «تهديد» جنبلاط بالقتل، أو حتى الرغبة في ذلك، ولكنني دعوت، حقاً، إلى كسر الحلقة الجنبلاطية في مخططات التآمر على جبل العرب الأشمّ، أعني، بالطبع، كسرها في السياسة، أولاً، من خلال فضحها إعلامياً، واتخاذ موقف صريح منها، سورياً، وثانياً، من خلال وقف العلاقات السياسية التي لا يزال يقيمها حزب الله مع وليد بك؛ فمن غير المفهوم أن تطغى، لدى إخوتنا في المقاومة، الاعتبارات المحلية على اعتبارات المعركة الإقليمية الكبرى.
لم يكفّ وليد بك، أبدا، منذ انحيازه للحلف الامبريالي الرجعي، عن الدعوة لإسقاط النظام السوري، ولم يكف عن تهديد الرئيس بشار الأسد، كما أنه لا يخفي اعجابه بـ «جبهة النصرة» الإرهابية ــــ والموصوفة كذلك في قرار أممي ـ ويعدها «فصيلا معارضا»، ويقيم مع قادتها اتصالات، ويعقد معها اتفاقات، منها ما هو مهينٌ للأباة الكرام من الموحدين الدروز، ليتحوّلوا إلى الوهابية الدينية في إدلب، والوهابية السياسية في جبل العرب.
يعرف وليد بك، جيداً جداً، حجم الصلات بين «النصرة» والعدو الإسرائيلي، ولا تغيب عنه لقاءات مريبة يعقدها مَن خانوا الموحّدين الدروز الكرام مع إسرائيليين؛ فهل يحلم بإمارة طائفية ومحطة إسرائيلية في سوريا؟ لن يكون ذلك أبداً. فأحفاد العروبي الثائر، سلطان باشا الأطرش، منذورون لعزّة العرب ووحدة سوريا وبلاد الشام، والذود عن حياضها.
لم أهدّد وليد بك إطلاقاً، ولكنني نطقتُ بمخاوفي من دوره في سوريا. وهو حرٌ في مقاضاتي. ستكون هذه القضية الرقم 2 ، فأنا أمثل أمام المحكمة في عمان أيضا!
تحيا سوريا