حتى عام 2005، كان على هامش الحياة السياسية سركيس سركيس واحد. فضّل ضباط الاستخبارات السورية أبناء البيوتات السياسية عموماً على رجال الأعمال. لم تكن الأعمال الخيرية تكفي لدخول المجلس النيابي، فكان لا بدّ من أن يثبت المرشح نفسه خدماتياً أو سياسياً. أما وقد رُفع السقف السوري عن الحياة السياسية، فقد نبت عشرات المرشحين إلى الانتخابات النيابية والمستوزرين. في زحلة وجزين والمتن وكسروان وجبيل والكورة ومناطق أخرى كثيرون ممن ينتمون إلى «حزب سركيس» و»مبادئه»: لا موقف سياسياً، ولا تاريخ حزبياً، ولا علاقات اجتماعية، ولا خدمات تقليدية. فقط مال وإعلان واستعراضات إعلامية.
غالبية هؤلاء أربعينيون أو في مطلع الخمسين. لا أحد يعلم كيف تكدّست في جيوبهم كل هذه الأموال أو من أين. ليسوا ورثة، ولا أعضاءً في نادي أصحاب المصارف اللبنانية، ولا علاقة لهم بالمافيات المسؤولة عن هدر الصناديق الرسمية وأزمة مؤسسة الكهرباء وتقاسم قطاع الهاتف الخلوي ومختلف المقاولات، ولا هم أبناء أصحاب الوكالات الحصرية من الدواء إلى السيارات، مروراً بقطاع البناء والمواد الغذائية وغيره، ولا هم تجار سلاح مثل بعض الوزراء الحاليين والسابقين، ولم يعرف عن أحدهم نبوغه في قطاع صناعي أو تجاري أو حتى فني. يحرصون على الظهور بمظهر المنزّهين جداً: «مهفهفون»، يرتدون ثياباً أكثر حداثة من بذلات السياسيين التقليديين ومعاطف فرو أنيقة، يشترون الـ»لايكات» لضمان تفوّقهم افتراضياً، لكل منهم جمعيته «الإنسانية» الخاصة، ويحرص واحدهم على الفوز سريعاً بموقع بارز يضمن له كرسياً في الصفوف الأمامية كرئيس فخري لأحد النوادي أو كقنصل فخري لإحدى الجزر أو كمرشح إلى الانتخابات النيابية. يحرص هؤلاء على اللياقات الاجتماعية، وإن كانوا يوحون خلال الحديث معهم باحتقارهم الشعب واستخفافهم بكل ما حولهم. يتنقلون مع زوجاتهم بزهو بين المطاعم وشاشات التلفزيون بعدما أقنعوا المحيطين بهم بأن الحظ أنعم عليهم في بلدان الاغتراب فعادوا إلى بلدهم لخدمة شعبهم.
«مواطن في خدمة مواطن»، يقول شعار سركيس سركيس الانتخابي. وسركيس، المرشح الدائم عن المقعد الماروني في المتن الشمالي، يتحاشى في حياته اليومية حدّة الأحاديث السياسية. يودّع المسؤولين الكتائبيين ليستقبل أصدقاء عونيين. يُسرّ منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار النائب السابق فارس سعيد بالقفز على مركبه بين وقت وآخر لـ»التثقف» على يديه.

سركيس وشقيقه وشركاؤهما متّهمون بالتزوير و«جرائم مالية»

يعرفه جيداً النائبان سامي الجميّل وميشال المر. ورع وتقيّ، يتبرع للمحتاجين، وخصوصاً السياسيين. يضع طائرة خاصة في تصرف البطريرك الماروني. يحرص بين شهر وآخر على دعوة مئات الشخصيات (وغالبيتهم من الإعلاميين) إلى مرافقته في طائرته لتناول العشاء في روما وتمضية بضعة أيام في رحاب صدره الواسع. يغدق أمواله على رجال الدين حتى يكاد يستحيل إيجاد كنيسة في المتن الشمالي لم تفز بتبرعين أو أكثر منه. يظنه من يرى اسمه فوق صالات الكنائس أحد القديسين. يدفع عادة كل مصاريف اللائحة التي تضمّه إليها، مع حبة مسك. وقد اكتشف بعد تدقيقه في نتائج الدورتين الانتخابيتين الماضيتين أن حليفيه، المر والجميّل، عملا بالتوصية العونية فأخذا منه المال ولم يعطياه أصواتاً.
الذين يستفيدون من نِعم سركيس لا يسألون أنفسهم من أين له، ولهم بالتالي، هذا كله. يتناقلون أسطورة عن شاب كان يبيع الدخان على الطريق، ففتح الحظ له الأبواب ليغدو واحداً من أهم أباطرة هذه التجارة في المنطقة. إلا أن النيابة العامة المالية لا تصدق الأساطير، وهي باشرت قبل نحو عام درس بعض ملفات سركيس المالية والتحقيق في ما يصفه النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم بأنه «جرائم مالية وتبييض أموال». وهو خلص إلى الادعاء على كل من سركيس وشقيقه ريمون سركيس، إضافة إلى خمسة من أقربائهما، بـ»تقديم بيانات ناقصة أو كاذبة، وإعطاء معلومات ناقصة أو كاذبة عن أسئلة وجّهتها اليه الادارة، وإعدادهم سجلات أو قيوداً مزيفة، وغيرها من وسائل الغش والاحتيال» التي ينص عليها المرسوم الاشتراعي 156/ 83، في وقت كان فيه قاضي التحقيق في جبل لبنان بيار فرنسيس قد أصدر قراراً ظنياً بحق شقيق سركيس وشركائهما الرئيسيين في «الأعمال» لتزويرهم مستندات وشهادات قيد للعقار رقم 343/38 منطقة عمارة شلهوب، بهدف الاستيلاء عليه. ويتبين، بحسب القرار الظني، أن أحد كتاب العدل ساهم في جرم التزوير وأفعاله لمصلحة ريمون سركيس الذي بادر (وفقاً لإفادته) إلى رفع لوحة إعلانية عليها صورة شقيقه المرشح سركيس سركيس على البناء القائم على العقار 343. وقد خلص القرار الظني إلى المطالبة بمعاقبة سركيس بالأشغال الشاقة المؤقتة.
لعل سركيس، المثال الأعلى لمن يتبوّأون اليوم مناصب قيادية في عدة أحزاب، قد بخل على بعض المرجعيات المتنية، فلجأ هؤلاء إلى القضاء. متابعة القضيتين مع المراجع القضائية لا توصل إلى مكان، في ظل غياب الشفافية والضغوطات المختلفة. لعل النائب سامي الجميّل الذي يسأل هذه الأيام عن مكامن الفساد في الدولة يدقّق قليلاً في مصدر دخل أحد حلفائه الأساسيين، أو حتى حليفيه الأساسيين، في ظل حديث بعض الزعماء بإسهاب عن مكاسب أحزابهم من هؤلاء ووجوب سعيهم لاستقطابهم، مقدمين نماذج عالمية تتّكل فيها الأحزاب على رجال الأعمال. كأن المرجعيات المذكورة لا ترى أنهم يدعمون أشخاصهم في الأحزاب (أو الكنيسة) بدل دعم الأحزاب. وهم لا يتبرعون هنا وهناك ويموّلون الماكينات الانتخابية لإعجابهم بهذا الحزب وسياسته وفكره، بل يشترون بمالهم ولاء القيادات ومراكز القوى، مستفيدين من فقر بعض الماكينات و»تعتير» المحازبين وقلة حيلة القيادات.