بعد 20 جولة قتالية بين باب التبانة وجبل محسن، راح ضحيتها عدد كبير من القتلى والجرحى، قررت الدولة أن تظهر في الحيين المهمّشين. بعد غياب طويل جداً دخلت «الدولة» إلى الفقراء بجيشها وعتادها لتفرض أمناً هشّاً يمكن أن ينهار في أيّ لحظة طالما أنّ الظروف الإنمائية لا تزال نفسها. أرباب الدولة لا يتطلّعون إلى الإنماء، بل يفضّلون ترسيخ الحرمان الذي تعاني منه المنطقتان، إنما هم بحاجة إلى الحد الأدنى من السيطرة على الناس. بعد تطبيق الخطة الأمنية، غاب الحيّان عن الأنظار. عادا إلى تهميشهما المقصود، وعاد الأهالي إلى معاناتهم اليومية في محاولة العيش. عُلقت صور ضحايا الجولات القتالية، سواء أكانوا مقاتلين أم أبرياء، على الأعمدة والجدران المثقوبة. جميع القتلى «شهداء وأبطال»، وجميع القتلى فقراء.
في شارع سوريا الشهير الذي يفصل الحيّين عن بعضهما، يتابع الناس حياتهم بهدوء، يقومون بالأشغال التي اعتادوها. من جهة، تقع التبانة حيث يقطن 15% من سكان مدينة طرابلس وتبلغ نسبة الأسر المحرومة فيها 87%، وفق دليل الحرمان الحضري لقياس الفقر في المدينة الذي أعدّته الإسكوا. في الجهة المقابلة، يطلّ جبل محسن حيث يقطن 24% (إضافة إلى حي القبة) من أسر طرابلس وتبلغ نسبة الأسر المحرومة 69%.

خبز وملح بين التبانة والجبل

تتعالى الضحكات والأغنيات من مبنى يقع في منتصف شارع سوريا. 34 عاملة من جبل محسن وباب التبانة يجتمعن سوياً في مطبخ مشترك لإعداد الأكل اليومي الذي سيوزع على 580 شخصاً من الأفراد الأكثر حاجة في المنطقتين ضمن البرنامج الإنمائي للجنة الدولية للصليب الأحمر بالتنسيق مع الصليب الأحمر اللبناني. يهدف المشروع إلى تأمين فرص عمل للنساء وإعادة توطيد العلاقات بين الحيّين عبر إيجاد مساحة مشتركة وتفعيل التواصل بين الأهالي. إلا أنّ رمزية الطبخ وتوزيع الأكل، عدا عن مصطلح «الخبز والملح» المستخدم لترسيخ العلاقات الاجتماعية، تدلّ على منحى مأساوي هو الجوع والفاقة.
تحصل وفاء حزوري (51 سنة) على 50 دولاراً أسبوعياً مقابل عملها ليومين في المطبخ. تقول إنها تطبخ لأهالي التبانة وجبل محسن من أجل إعادة الألفة بين الحيين. ابنة جبل محسن أو «الجبل»، تُخبر أن هناك أسراً تمكنت من تسديد إيجار المنزل جرّاء توفير وجبة أكل يومية. يشير الدليل إلى أن نسبة الأسر المحرومة حرماناً شديداً بلغت 28% في منطقة جبل محسن- القبة، أمّا في التبانة فوصلت إلى 52%.

خضر: «الجوع
بيخليك تقتل، بيخليك تستشرس لتقدر
تعيّش ولادك. السياسيين عم يلعبوا عهالنقطة»


تقطن زكية الشوام (44 سنة) في شارع سوريا من جهة التبانة. لم تكن لزكية علاقات مع أهل الجبل حتّى قبل اندلاع المعارك. اكتشفت في المطبخ، بعدما جمعها العمل بهم، أنهم «مثلنا». توضح زكية معنى «مثلنا»: في الجبل يعانون من المشاكل نفسها، نتشارك البطالة والفقر والإهمال. للمرأة الأربعينية 4 أولاد وصل منهم اثنان إلى السنة الجامعية الأولى وتوقفا، أما الصبي الثالث فسيترك دراسته قريباً ليساعد والدته في تأمين المعيشة، فمدخول البيت لا يتجاوز الـ 300 دولار في حين يبلغ مصروف الأسرة 700 دولار مخصصة للحاجات الأساسية. يؤكد كلام زكية ما يقوله دليل الحرمان عن أنّ نسبة الأسر المحرومة في ميدان الوضع الاقتصادي يبلغ 95% في التبانة و87% في جبل محسن؛ إذ أنّ 76% من الأسر في التبانة يقل دخلها عن 750 ألف ليرة، مقابل 65% من الأسر في جبل محسن.
قنبلة واحدة في الجولة الأخيرة كانت كفيلة بإشعال منزل هناء عواد مسؤولة المطبخ حالياً. على عكس زكية، كانت لهناء علاقات كثيرة مع اهالي الجبل قبل الجولة الأولى، «بناية واحدة تفصل بين بيتي والجبل، لذلك كان من الأسهل التوجه الى هناك للتسوّق». يستغرب جيرانها اليوم كيف يمكنها أن تعمل في مكانٍ واحد مع أشخاص من «الجهة المقابلة» فهؤلاء، بحسب تعبير الجيران، «قتلولنا أولادنا». تفكير الجيران يعكس الجو العام الخفي المسيطر على منطقة طرابلس عموماً، والذي لا يمكن أن ينتهي بمجرد إعلان هدنة أو خطة أمنية. فالنفوس والعقول المعبّأة مذهبياً لا يمكن أن تتخلص من هذه الرواسب «في يوم وليلة». تقول هناء بحزن: «لم نكن واعين لما يحصل، كل ما جرى هو ردود فعل، نَقتُل ونُقتَل. أملي ألّا يحمل أولادي السلاح». ابنها الذي لم يبلغ الـ 15 سنة سألها سابقاً «كيف عم تشتغلي معن؟ ما بيعملولك شي؟». إثر هذا السؤال سجّلته في دورة لتعليم الكهرباء في الجبل ليُصدم الولد أن «أبناء الجبل لطفاء!». سؤال الولد يفضح ما يتربى عليه أولاد المنطقتين، فمهما حاولت هناء إبعاده عن الفتنة هناك مجتمع بظروف قاهرة يحضّره لذلك. ترك الصبي مدرسته بسبب المعارك، تروي هناء أن أولادها كانوا في مدرسة في منطقة التل إلا أن الأحداث منعتهم من إكمال دراستهم. اليوم، تختلف اختصاصات الأولاد بين مصففة شعر، مربية حضانة وكهربجي. ما يعانيه أولاد هناء ليس حالة خاصة، إنما هناك ظاهرة تسرّب مدرسي ضخمة تبلغ أوجها في التبانة، بنسبة حرمان من التعليم تشمل 47%، من الأسر إذ أنّ 97% من الأسر ليس فيها شخص حاصل على الشهادة الثانوية، ونسبة أمية تبلغ 19% من أسر التبانة. وضع الجبل أخف وطأة إلا أن النسب تبقى مرتفعة، إذ هناك 26% من الأسر المحرومة من التعليم و9% نسبة الأمية.

ملعب وحديقة: أقصى حالات الترفيه

من مطبخ شارع سوريا ننتقل إلى ملعب جبل محسن، فسحة الترفيه الوحيدة الموجودة في الحي. الملعب مهمل، جدرانه تهوي مع الأمطار فيتحوّل إلى مستنقع وسخ. هنا، يجتمع الأطفال والنساء والشباب يومياً لتنفيس سأمٍ وبؤسٍ طغيا على الوجوه الحزينة. تدخل عملية تأهيل الملعب ضمن مشروع «العمل مقابل النقد» الذي تنفّذه اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جبل محسن، بعل الدراويش والبقّار، والذي يستفيد منه 125 عاملاً.
غيّرت المعارك حياة الكثيرين، فخسر العديد من الشباب وظائفهم المتواضعة. كان علي الخطيب (24 سنة) موظفاً في شركة أمن خارج طرابلس منذ سنتين، «استمرت إحدى الجولات 15 يوماً لم أتمكن خلالها من التوجه إلى العمل، فطردوني». الحالة نفسها يرويها عماد ابراهيم «كنت معلم دهان لكن منذ عام 2010 لم أخرج من الجبل بسبب المعارك». يعتقد الرجل الأربعيني أنّ إيجاد فرص عمل يُنهي المعارك «عنا وعندن نفس الحالة، الفقر آخد مجدو. قلة الشغل والجوع والحاجة بتخلي الناس ينزلو عالشارع».
في الحرب لا تتّسع الشوارع للأخبار الجيدة، إلّا أن المنازل لا تخلو منها. يُخبر علي ضاهر (30 سنة) عن علاقاته مع أهالي التبانة خلال الجولات، «العام الماضي كانت أمي في مستشفى طرابلس الحكومي عند انطلاق إحدى الجولات. لم أستطع الوصول إليها فكان صديقي من التبانة يزورها يومياً ويحضر لها الأكل». لم يشارك علي في المعارك لسببٍ شخصي جداً «مات أبي في معارك الثمانينيات بين الحيّين، كبرنا بلا أب ولم يسأل عنا أحد من السياسيين. لا أريد لأولادي أن يعيشوا الحالة نفسها، لإن إذا متت ما حدا رح يطّلع فيهن».

كفاح: «طرح الأمن شغلة مهمة بس
أكبر خطة أمنية ما بتنجح إذا ما في انماء. بدنا فرص عمل،
طبابة وتعليم»
يعمل علي في المشروع مقابل 20 دولاراً يومياً، يقول بسخرية «شو فكرك مناكل؟ بيض وبطاطا كل يوم».
يرى خضر أنّ تأهيل الملعب يفيد المنطقة من خلال إيجاد مكان آمن لتلاقي الشباب، كما أن عملية التأهيل أمّنت عملاً لكثير من الناس. يقول خضر ما يتداوله معظم الناس في المنطقة: «الجوع بيخليك تقتل، بيخليك تستشرس لتقدر تعيّش ولادك. السياسيين عم يلعبوا عهالنقطة». يُظهر دليل الحرمان أمراً أساسياً: المصدر الأكثر أهمية للمساعدات التي تتلقاها الأسر في طرابلس هو الزعيم السياسي، إذ صرّحت 11% من الأسر أنها تلقت مساعدة من هذا النوع عام 2011 ويرجح أن تكون النسبة أعلى. وفي التفاصيل، 13% من أسر التبانة تلقت مساعدة من زعيم سياسي مقابل 4% في جبل محسن- القبة. يبرر الدليل انخفاض النسبة في جبل محسن «حيث نمط الاستقطاب السياسي وسيطرة طرف سياسي واحد على المنطقة، يغيران من قواعد التعبئة وحشد التأييد، ويخففان من الاعتماد على المساعدات المالية التوزيعية على الأسر، لصالح أساليب ووسائل أخرى، أكثر مأسسة بالنسبة إلى المساعدة المالية للنواة الصلبة من المحازبين، وأكثر اعتماداً على التعبئة السياسية والسيطرة على المجال العام من اعتمادها على المساعدة المالية». يضيف الدليل أن هذه المساعدات المسيّسة ليس لها تأثير إيجابي في خفض نسبة الحرمان، لا بل إنها جزء من مشكلة الحرمان المزمنة في المدينة.
في مشروع بناء حديقة في بعل الدراويش، يأخذ الكلام منحى أكثر وضوحاً. يقول كفاح: «طرح الأمن شغلة مهمة بس أكبر خطة أمنية ما بتنجح إذا ما في انماء. بدنا فرص عمل، طبابة وتعليم». قد يكون العمل خفّف من الاحتقان، وفق ما يقوله شباب التبانة، إلا أنّ الشحن المذهبي لا يمكن إخفاؤه مهما حاولوا. يقولون: «رأينا بأعيننا كيف يأتي سياسي ويوزّع السلاح والذخيرة ويحرّض الناس على بعضهم، أمّا في الاجتماعات المغلقة يوقّع على إعدامنا». يوحي هذا الكلام بوعي بدأ يتكوّن لدى الناس، إلا أنه ما يلبث أن يختفي عندما يتحدثون بشكل فردي عن معاودة القتال «إذا اعتدوا علينا»، والحال نفسها تنطبق على أهالي الجبل. يتحدّث الجميع عن أهمية العمل و»حلم» المعيشة الكريمة، يجاهرون بأنّ السياسيين هم سبب المعارك، لكنهم في الوقت عينه مستعدون لتكرار السيناريو نفسه عند أي لحظة استنفار طائفي، وبمعزل عمّا إذا كان ذلك مبرّراُ أم لا، فعملية الإنماء المؤسساتي اللازم لتخفيف الحرمان وتكوين وعي قادر على الارتقاء خارج النعرات الطائفية، لم تحصل. والحيّان لا يستطيعان النهوض من حالة الحرمان المعمم استناداً الى قدرات المقيمين فيهما الخاصة وحدها.