في ظل توالي التقارير الإعلامية الإسرائيلية التي تؤكد إجراء مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل وحركة «حماس»، تتعزز الأسئلة عن موقع هذا المسار من رؤية رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، واستراتيجيته العامة في مقاربة الواقع السياسي والأمني في قطاع غزة. يستمد هذا المسار خصوصية إضافية من كونه يأتي بعد حرب استمرت 51 يوماً، وعلى ضوء مساعي تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، وبالتوازي مع التطورات التي تشهدها المنطقة بشأن التوصل إلى اتفاق نووي نهائي مع إيران، وصولاً إلى ارتفاع درجة التوتر على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة.
ولم يخفَ أن العدو الإسرائيلي حرص طوال العدوان الأخير في غزة، على منع تقديم ما سماه «مكافآت سياسية» للمقاومة، وهو ما دفعه إلى رفض القبول برفع الحصار أو بناء ميناء كشرط لوقف القتال. استغل نتنياهو استمرار المعارك لإحداث أكبر قدر من التدمير والتنكيل بسكان القطاع من أجل تأليبهم على المقاومة وخيارها، وراهن أيضاً على أن يشكل ذلك عاملاً رادعاً لاستئناف القتال في مرحلة ما بعد التوصل إلى وقف النار.
هكذا تبنت القيادة السياسية والأمنية في تل أبيب خيار الإبقاء على الوضع القائم، في ظل تعذر التوصل إلى حل سياسي نهائي مع كلفة خيار الحسم العسكري، اتكاءً على ما افترضته من تعزيز قدرة الردع الإسرائيلية. في هذه الأجواء، توالت الوساطات التي تحاول التوصل إلى تهدئة طويلة الأمد، وهي تستند إلى حاجة القطاع وسكانه ومعه المقاومة إلى صيغة تؤدي إلى رفع أو تخفيف آلام الناس بفعل الخسائر البشرية والعمرانية التي ألحقها العدوان، وأيضاً بفعل استمرار الحصار.
في المقابل، تحتاج إسرائيل إلى تكريس حالة التهدئة التي تحتل أولوية متقدمة لدى العدو عامة ونتنياهو خاصة، ولا سيما في حال كان الحديث إزاء اتفاق يستطيع ترويجه على أنه إنجاز ونتيجة للحرب الأخيرة، فضلاً عن أن أقصى ما يطمح إليه نتنياهو في هذه المرحلة هو الإبقاء على التهدئة والحصار الذي يمنع تراكم القدرات العسكرية للمقاومة في غزة. أما الحصار المدني فقد يكون من المجدي، وفق المنظور الإسرائيلي، المساومة عليه مقابل تنازلات تؤدي إلى استقرار جنوب الأراضي المحتلة.
في سياق متصل، يسمح تكريس التهدئة على جبهة غزة وشرعنتها عبر اتفاق بضمانات دولية، بتحييد هذه الجبهة التي كثيراً ما أشغلت الاحتلال واستنزفته وفرضت عليه مسارات أمنية وسياسية لا تتلاءم مع ما تفترضه من أولويات إسرائيلية في هذه المرحلة، لذا، وفي حال تمخض هذا المسار عن تهدئة مشروطة بالسقف الإسرائيلي، يمكن للقيادة الإسرائيلية أن تتفرغ كلياً لمواجهة ما تعتبره «أولوية الدولة العبرية» في هذه المرحلة، وتحديداً لجهة المسار التفاوضي بين إيران والسداسية الدولية، والتهديد الاستراتيجي لدى حزب الله.
مع ذلك، تبقى الكلمة الأخيرة لموقف «حماس» وبقية فصائل المقاومة، إذ يحسم ذلك مسألة إمكانية التوصل إلى اتفاق تهدئة وبأي شروط. وبرغم أن أياً من السيناريوات ليس محسوماً ولا تزال الأمور تقتصر على التسريبات الإعلامية، تواجه فصائل المقاومة في القطاع استحقاقاً جديداً يتمثل بالضغوط التي يمثلها الواقع المؤلم مما يعيشه سكان القطاع، ومحاولات ضغط تأخذ شكل وساطات تهدف إلى تثميره باتجاه فرض تنازلات على السقف الذي تتبناه المقاومة حتى في سياق العناوين المرحلية. ولكن، تبقى مجموعة من العقبات والإشكاليات منها ما يتصل بقضايا أخرى متداخلة، لجهة استمرار اعتقال آلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية، وأيضاً السياسة الأمنية والعملانية التي تتبعها إسرائيل في الضفة المحتلة والقدس.
وفي ما يتعلق بجديد التقارير الإعلامية الإسرائيلية، ذكر المعلق العسكري في صحيفة «هآرتس» عاموس هرئيل، أن من شأن التوصل إلى اتفاق تهدئة لعدة سنوات وبضمانات دولية، أن يؤثر في توازن القوى والعلاقات بين إسرائيل و«حماس» في القطاع والسلطة الفلسطينية، فضلا عن مفاعيله على العلاقات الوثيقة مع مصر. ولفت هرئيل إلى أن «حماس ستحصل في هذه الحالة على تسهيلات اقتصادية مهمة لغزة مع تخفيف الحصار، وقد توافق إسرائيل لاحقاً على إمكانية بناء ميناء تحت رقابة دولية»، ولكنه أوضح أن هذا الخيار غير وارد الآن أو في المرحلة الأولى من الاتفاق.
إلى ذلك، رأى هرئيل أن نتنياهو قد يكون معجباً بفكرة اتفاق التهدئة مع «حماس»، لأن ذلك «سيمكنه من تقديم الحرب في غزة خلال الصيف الماضي، كإنجاز طويل الأمد، بدلاً من كونها مهمة غير منجزة وتخضع للخلاف في الساحة الإسرائيلية، كما تبدو اليوم». وأضاف: «سيكون بإمكان نتنياهو أن يبرر، بنظرة إلى الوراء، خطواته في غزة والقول إن موافقة حماس على وقف إطلاق نار طويل تعكس نجاح الجيش الإسرائيلي في الحرب».
وتابع هرئيل: «بتسوية غير مباشرة، لن تطالب حكومة نتنياهو الجديدة بتقديم تنازلات مبدئية لحماس، واعتراف فعلي بها أو الانسحاب من أجزاء من الوطن، بل يمكن لنتنياهو عبر الاتفاق مع حماس الالتفاف على رئيس السلطة، من ناحية اليمين، وسيكون بإمكانه مواجهة قسم من الادعاءات في الساحة الدولية بأن إسرائيل لا تفعل شيئاً على المسار الفلسطيني».
من جهة أخرى، يسمح أي اتفاق محتمل مع «حماس» لنتنياهو بحرف اهتماماته من الجبهة الجنوبية مع القطاع، إلى الجبهة الشمالية في مواجهة حزب الله. وبنظرة أكثر اتساعاً «إذا كان نتنياهو ينظر إلى التحدي في الجبهة الشمالية مقابل حزب الله على أنه التهديد الأمني الأخطر، ويعتبر أن هذا التهديد قد يتصاعد في السنوات القريبة المقبلة ويصل إلى حد نشوب حرب، فإن وقف إطلاق نار طويل الأمد في غزة، سيعفيه بصورة مؤقتة من وجع رأس مقلق، وسيسمح للجيش الإسرائيلي بالتركيز على المواجهة الصعبة وذات الاحتمالات العالية بالاشتعال».
ويرى هرئيل، بقدر ما يمكن تكوين انطباع بأن القيادة السياسية لـ«حماس» في غزة تميل إلى تأييد مثل هذه التسوية وخاصة أنها تأتي بعد ثلاث حملات عسكرية خلال خمس سنوات ونصف، فإن من المشكوك به جداً أن يكون لدى اسماعيل هنية ورجاله الرغبة في جولة قتالية أخرى في المدة القريبة المقبلة، كما يرى.
واستطرد المعلق العسكري: «قد يكون للتقارب الملموس بين الجناح السياسي في حماس والسعودية صلة بذلك، إذ تبدو حماس في هذه اللحظة أكثر استعداداً للقبول بشروط الاتفاق أكثر من إسرائيل»، مشيراً إلى أن هناك في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من يعتقد أن بالإمكان مواصلة العمل في إطار الوضع القائم مع تغييرات طفيفة، وعدم تقييد إسرائيل بالتزامات أشد. وعلى خط مواز، رأى هرئيل أنه يمكن التقدير بثقة بأن «الجناح العسكري لحماس غير متحمس لخيار هدنة طويلة المدى، وعليه كلما نضجت الاتصالات لوقف النار ازدادت أيضاً احتمالات أن يخالف الجناح العسكري القيادة السياسية، ويبادر إلى عملية أخرى كي يضمن ألا يتبلور اتفاق غير مباشر مع إسرائيل».