الى حسن اسماعيلفي 25 أيار 2000، عندما خرج آخر جندي إسرائيلي من أرض الجنوب وأقفلت بوابة فاطمة للمرة الأخيرة، تم ما لم يجرؤ على أن يحلم الكثيرون به. حُرّر لبنان في ذلك اليوم الذي اصبح يوم المقاومة والتحرير. يوم ليس فقط لتخليد ذكرى التحرير، بل يوم أيضاً للمقاومة كي يتذكر اللبنانيون حالياً وتتذكر الاجيال المقبلة أن التحرير لم يأتِ تلقائياً أو نتيجة اتفاقات أو صفقات إقليمية أو دولية، كما تعودت أكثرية اللبنانيين أن تقرأ أحداث وتاريخ وطنها.

فقد بذل المقاومون، الذين هبوا للدفاع عن وطنهم بصمت في أكثر الأحيان، حياتهم، كما فعل الآلاف من الشهداء، ومن حياتهم، كما فعل الآلاف من الأسرى والمعتقلين والجرحى، ومن نذر يسير من زمن حياتهم، كما فعل المقاومون الآخرون.
إن أي ذكرى، ولو بذلت التضحيات الكبرى من أجلها ولو كانت عظيمة كذكرى طرد الأجنبي، قد تتحول إلى مجرد ذكرى عابرة قد لا يهتم بها الكثيرون إن كانت ذات بعد واحد أو أمراً حتمياً مفروغاً منه، مثل أن يعتبر الناس أن التحرير يأتي دائماً بعد الاحتلال وأن القتال ضد الجيش المحتل حصل لهزمه فقط. كتب البر كامو في رسالته الرابعة الى صديق ألماني إبان الاحتلال النازي متوجهاً الى الجنود النازيين عشية معركة تحرير باريس: «إنكم قبلتم باليأس وأنا لم أستسلم له....أنتم رأيتم عدم عدالة الحالة الانسانية وأردتم الاضافة اليها... أنا اخترت العدالة لأبقى أمينا للعالم... وعلينا أن نبرهن أننا لا نستحق الظلم. هذه هي المهمة التي أوكلنا أنفسنا بها وستبدأ في الغد». وفي ليلة التحرير في 24 آب 1944، كتب في مجلة المعركة التي أصدرتها المقاومة الفرنسية: «لا يأمل أحد ان الرجال الذين حاربوا بصمت لأربعة اعوام ويحاربون اليوم... يمكن أن يقبلوا بعودة قوى الاستسلام والظلم تحت اي ظرف كان. لا يتوقع أحد ان هؤلاء الرجال- وهم أفضل الأمة- سيقبلون ما فعله الافضل والأنقى لمدة خمسة وعشرين عاماً بأن يحبوا وطنهم بصمت وبصمت أيضا يكرهون زعماءهم. إن باريس التي تحارب الليلة تنوي القيادة غداً، ليس من أجل السلطة بل من أجل العدالة، ليس من أجل السياسة بل من أجل الأخلاق؛ ليس لإخضاع فرنسا بل لعظمتها. إن مدينة الأضواء تعجّ بلهيب الامل والمعاناة... وفيها بريق ليس فقط التحرير وإنما حرية الغد».
في رسائل وكتابات كامو الأبعاد الأوسع للقتال ضد الاحتلال، وفي أوروبا بعد نهاية النازية، وإن اختلف الكثيرون حول ما تحقق من حرية وعدالة كما أمل كامو، لكن الإنسان الأوروبي الذي حقق ذاته وأكد إنسانيته بالتمرد على البربرية النازية، استطاع ان يخط لنفسه طرقاً للعدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أتت في أشكال مختلفة، وفي بعضها كنتيجة مباشرة للتجلي السياسي لفعل المقاومة كما حدث في فرنسا وايطاليا ويوغوسلافيا.
في لبنان اليوم نسينا ان المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني كانت أيضاً من اجل العدالة والحرية وليس فقط التحرير. أردنا ان نقول للجندي الصهيوني ان عنصريتك وفاشيتك لا مكان لهما في لبنان، وأن الفقراء والجنوبيين وافضل شباب الوطن الذين هبوا ضدك لن يقبلوا ان يعود لبنان الى ما كان عليه لأن عنصريتك وطائفيته شكلان مختلفان لافكار الفصل والتفرقة، ولان فاشيتك الشكل الاكثر تطوراً للعنف الاجتماعي والسياسي لطائفيته. اعتقد الكثيرون بارتباط التحرير والتغيير، وبأن الارض لمن يحررها فخاب املهم، وبالتالي خاب امل لبنان بحرية الغد. حصل هذا الإجهاض قبل 25 ايار، فبعد ان تحرر الجزء الاكبر من لبنان في 1985 وانكفأت اسرائيل الى الشريط الحدودي كان هناك امل بالتغيير، لكن اتفاق الطائف في 1989 أتى ليعلن عصر المحاصصة بين الطوائف، بدلاً من ان يعلن عصر انعتاق الفرد والطبقة من سلاسل طوائفهم، ومن ثم أتى منطق الرأسمال بعد 1992 ليعلن تحويل الاقتصاد اللبناني الى اقتصاد ريعي بأشكاله المختلفة، فزادت الفوارق في الدخل والثروة في الاقتصاد الداخلي وهرب الشباب والمتعلمون واصحاب المهارات الى الاقتصاد الخارجي في هجرة كبرى جديدة في تاريخ لبنان، وزادت مديونية الجميع من الدولة الى الافراد، وبالتالي اخضع اللبناني لسلطتي المال والحاجة الى الخارج، ففقد ما ظنه أنه سيمتلكه من سيطرة وخيارات وعدالة وحرية في حياته الاقتصادية.
في ذكرى المقاومة والتحرير، علينا ان نتذكر التحرير بإجلال، ولكننا ننساه بسرعة لأن التحرير قد حصل ولا شيء سيتغير. إن المقاومة اليوم هي للدفاع عن الجنوب وليست لتحرير المناطق المتبقية، فأكثر من 17% من حدود العالم متنازع عليها، ولا هي للدفاع عن مناطق أخرى من الداخل أو في الخارج. ان النضال من اجل الحرية والعدالة هو فعل المقاومة اليوم لأن المقاومين حملوا السلاح يوماً من اجل هذه القيم التي تحطمت في وطن غارق في طائفيته وريعيته، وهو يستجدي الخارج واثرياء الداخل لتسليح جيشه ولتمويل تعليم اولاده ولإطفاء حرائق أحراجه ولبناء جسوره واصلاح بناه التحتية بعد الحروب حتى وصل به الدرك الى استجداء تمويل بث مباريات كأس العالم، وكل هذا وثروة اللبنانيين تعد بمئات مليارات الدولارات. ان بيروت وصيدا وصور والنبطية وبنت جبيل ومارون الراس قاتلت ليس من اجل وطن حيث الفقراء والعمال والموظفون والمعلمون والفلاحون والمزارعون والشباب في غربة عميقة، بل من اجل وطن الحرية والعدالة. وكما قال كامو: «ليس من اجل السياسة بل من اجل الاخلاق».