أكثر من صرح مستباح، إن المدينة ـــ المملكة التي تُعدّ من كنوز الحضارة البشريّة، تضعنا اليوم أمام خوائنا الروحي والحضاري. «وتدْمر كإسمها لهم دمارُ» (أي للاعداء)، قال مرّة أبو الطيّب. تدمر اليوم تختصر دمار العرب، عند لحظة فظيعة من انهيارهم. من السهل طبعاً البكاء على أطلالها العريقة التي بناها «الجنّ» ـــ كما شُبّه للنابغة الذبياني ـــ بناء على أوامر الملك سليمان. من السهل البكاء على أطلال هذه الأمّة التي لم تعد تنجب إلا المسوخ، فيما أبناؤها يتفرّجون على نهايتهم، ويمضون إلى حتفهم بخطى واثقة، ونظرات مطمئنّة، وصدور منتفخة.
من السهل تدبيج مقالات الرثاء التي لن تحمي تدمر، ولن تعيد لنا سوريا، ولا العراق، ولا… لكن من الصعب، والموجع، أن نعترف أننا شركاء في هذه المهزلة الكابوسية التي نشهدها اليوم على رقعة الوطن المشلّع، المنهار، المحاصر بالأمية والجهل والخوف والتعصّب، المرتمي بخشوع عند جزمة جلاّده.
بالأمس فقط كان الناس يتجمهرون في الميادين، عُزّلاً إلا من غضبهم، يهتفون للحريّة. والآن نقف مشدوهين في حضرة السيّاف الذي سبى زنوبيا، ويتهيأ لقطع رأسها. ماذا جرى؟ كان الشعب يحلم بمجتمع مدني يتسع للجميع، ودولة قانون أكثر عدالة تساوي بين الجميع، وسلطة تحكم باسم الشعب ومن أجل سعادته ورخائه. الشعب نفسه بدده طاعون المذهبيّة، صار جماعات متناحرة، ونسي حقوقه الاجتماعية والقوميّة. كيف حدث كل ذلك بلمح البصر؟ من أين خرج هذا المسخ، رافعاً رايته السوداء، ليقول لنا إن الأرض له، والعباد، والسلطة، والمستقبل. وها نحن نرتعد كالأرانب، ونقبل صاغرين، ونغرق في لعبة المقارنات السفيهة. نقفز إلى مستنقع المذهبيّة الآسن، كما لو أنّها من بديهيّات السياسة، وقوانين التاريخ. نتجادل حول الأكثر اعتدالاً بين البرابرة الجدد. نصدّق الغرب اللئيم، الفاجر، بعدما غذّى الوحش، مباشرة أو عبر وكلائه، وزرعه في تربتنا الموبوءة. وما زال يعدنا بالاعتدال والاستقرار، كما وعدنا بالديمقراطيّة، وقبلها بالعلمانيّة! لقد نسينا. نحن ننسى دائماً. لم نعد نعرف كيف كان عليه المشهد قبل «الربيع العربي»، قبل سبي النساء، ورجم المساكين، وقطع الرؤوس، وتدمير التماثيل…
من الطبيعي، وأنتِ تساقين إلى ساحة الاعدام، أن ترمقينا بنظرات الاستغاثة والملامة. عذراً، لم نعد نستطيع أن نفعل شيئاً. لقد ساومنا مع الاستبداد، وتعاملنا مع الجلاد، ووقعنا عقوداً شيطانية مع أوثان التعصّب والانغلاق والتطرّف. هتفنا للتتار باسم «الديمقراطيّة»، وبرّرنا للمذهبيّة باسم «الثورة». شهدنا بالزور للمرتزقة، ضد العقل وضدّ الحق. تفرّجنا على الوحش وهو يكبر، وعبّرنا عن امتناننا لفاعلي الخير الذين علفوه. لقد خرج الوحش من لاوعينا الجماعي، من ضمائرنا، من عجزنا، من تنازلاتنا وعصبياتنا وجهلنا. الآن لم يعد بوسعنا شيء. عذراً زنوبيا! نحن قتلتك الفعليون، سامحينا. عزاؤنا الوحيد، أننا سنفنى معك. الشعوب تموت مع حضاراتها. سنمضي مثلك إلى العدم، كي تستريح هذه الأرض من همجيّتنا، من دعساتنا الأثيمة.
19 تعليق
التعليقات
-
الحر و داعش و النصرة الاسم الحركي لبلاك ووتر؟هل فطن المثقفون العرب ان داعش و النصرة و الحر و اخواتهم هم التسميات المحلية او الميدانية لبلاك ووتر؟. اي بالعربي الفصيح هل فهموا اخيرا ان بلاك ووتر= الحر النصرة. داعش احرار الشام. وهذه كلها اسماء حركية ؟ هل بدؤوا اخيراً فهم كل شئ كان منظماً و مخططاً له بشكل دقيق و لكل مرحلة خطة مسبوقة و اسم حركى؟ و كما هناك مرتزقة جندوا كمجرمون للقتل و الزبح و التدمير و السبي باسماء حركية هناك ايضاً مرتزقة جندوا كمثقفونً ً او اعلاميون. ؟ و كما كان هناك ناس عاديين لم يكونوا مجنديين في بلاك ووتر ولكن سقطوا بالفخ؟. كان هناك ايضاً مثقفون و اعلاميون لم يكونوا مجندين في بلاك ووتر و سقطوا بالفخ. ؟ ولكن اليس هناك ايضاً ممن لايريدون ان يعترفوا انهم سقطوا بالفخ لانهم بغريتهم العربية يعتبرون ذللك عار.؟ وممن لا يريدون الاعتراف بانهم غلطوا و كيف يغلطون و هم مثقفون كل كبار علماء البشرية يعترفون باغلاطهم لكن العربي وحده معصوم عن الغلط. ولهذا تراهم يعللون حتى الان ليقنعوا انفسهم انها كانت ثورة حتى لا يعترفوا باخطائهم بالتحليل. لايريدون ان يفتحوا عيونهم و اذانهم و عقولهم. لايريدون حتى ان يسمعوا لوزير خارجية فرنسا الاسبق رولان دوما وزير خارجية فرنسا لسنوات عديدة ايام فرنسوا ميتران الذي قال منذ بداية حرب الارهاب على سوريا ان من خططوا لهذه الحروب على شكل ثورات قد دعوه الى لندن عام ٢٠٠٩ للاشتراك و لكنه رفض النخراط في هذه الحروب القذرة لان اخطارها رهيبة و ستخرج عن السيطرة فردوا عليه كل شئ جاهز و سينفذ
-
الحق على مينخواء فكري وحضاري وثقافي بالفعل ناتج عن تصحر العقول والقلوب. الآن بدأت أفهم لماذا العرب مكروهون من كل شعوب الأرض، لأننا أناس خاويون لم نؤتمن على إرثنا وحضارتنا وبعض المسلمين منا لم يؤتمنوا حتى على تعاليم دينهم ونبيهم فكيف للشعوب الأخرى أن تصدقنا وأن تعاملنا بالند؟
-
النصر لنا والجرذان إلى جحورهاأحييكى سيدتى. لقد قتلنا يوم تكونت عصبة بجامعة الدول العربية حولتها إلى مفرقة. قتلنا يوم سيطر البرابرةعلى إرادة الأمة وفرضواعلينا الحصار. قتلنا يوم استجلبوا مرتزقة الأرض لتحريرنا من أنفسنا ومن حضارتنا وتاريخنا. قتلنا لأننا أصحاب حضارة وتاريخ، ولأن الأوباش لا حضارة أو تاريخ لهم. رغم الألم سترتفع هاماتنا عالية، وستعود الجرذان إلى جحورها. والنصر لنا ياسيدتى.
-
زنوبيا السوريةعذراً سيدي فزنوبيا التي خاضت من أجل كرامة مملكتها معركة عرفت نتيجتها سلفاً وسارت نحو حتفها رافعة الرأس لأنها بأسرها كانت حرة أكثر ممن أسرها لاتحتاج مراثيكم أنتم ورثة مجدها وعنفوانها وحريتها وكرامتها !! فأنتم سيدي من رعيتم وسوقتم قتلتها عبر تهليلكم وتعاميكم وصمتكم وتمويهكم لصغار الدواعش على أنهم أحرار يبحثون عن الكرامة وأوصدتم الأبواب في وجوهنا نحن الذين كنا نسمع نشتم ونرى داعشيتهم صنفتمونا موالين للنظام لأننا قلنا أنهم ليسوا مدنيين .. كيف فاتكم أن المساجد لن يخرج منها غيفارا ولن يخطب فيها غاندي أليس الحسين أعظم ثائر عربي لماذا لم ينطلق من مسجد ؟ سيدي أصدقاؤك من المثقفين السوريين الذين ضللوك بالحديث عن سلمية درعا وحمص وجسر الشغور ووحشية النظام باعونا بثلاثين من الفضة ومجد زائف بنوه على جماجمنا تأخرتم جداً في ادراك أن أصحاب الصدور العارية استخدمكوم أنتم النخبة المثقفة لإخفاء وجوههم الحقيقية "للأمانة تبرع بعضكم لوجه الله في اخفائها " فقط لأنكم أكبر من أن تعترفوا للنظام السوري أنه يواجه وحشاً لاشعباً فاشربوا نخب دمنا وتناولوا لحمنا وتحدثوا عن مجدنا الذي كان.