دمشق | ما زالت أشهر عبارة تدمريّة متداولة حتى اليوم هي عبارة «يا حبالتيه» التي تعني: وا أسفاه. ورغم أن دلالات العبارة تُحيل على التحسّر، لكنّ تدمر ما زالت موجودة. ربّما تبدو هذه المقدّمة محاولة للبحث عن عزاء، أو استشراف أمل ما. غيرَ أنّ في ما يتداوله أبناء المنطقة عن «طمر المدينة عبر التاريخ ستّ مرات طمراً كاملاً، ونجاحها كل مرة في العودة»، ما ينسجمُ مع عدم وجود معلومة دقيقة حول النشأة الأولى للمدينة التي يعود أقدم ذكر لها باسمها الحالي إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، مع أدلّة على أنّها أقدم بكثير من ذلك التاريخ. تبدو تدمر لائقةً بالأبد أكثر من كثيرٍ من الرموز التي أُلصقت به.
عراقة تدمر لا تقتصر على الأوابد العمرانيّة (بدَت لعظمتها أكبرَ من قدرات البشر، فنُسبَ بناؤها إلى الجن)، بل تجاوزت ذلك إلى التشريعات والقوانين. تشير بعض الدراسات إلى أن تدمر كانت مهداً لأوّل قانون ضرائب في العالم، ويُعرف باسم «التعرفة الجمركية التدمرية»، وقد تمّ إقراره في «جلسة عادية لمجلس الشيوخ» وفقاً لما ورد في النقش الذي يشي بنظام حكم ديمقراطي. القانون المذكورُ نقش على حجر يبلغ طوله 80.4 متر وارتفاعه 75.2 متر باللغتين اليونانية والتدمرية. هذا النقش التاريخي موجود في متحف الأرميتاج (روسيا) منذ عام 1901، حيث حصل الأمير الروسي لازاريف على إذن من العثمانيين لنقله، بعد تجزئته إلى قطع عدة من أجل سهولة حمله. المفارقة أنّ وجود تحفة من هذا النوع خارج البلاد بات اليوم خبراً سارّاً، لأن ذلك يعني أنّها في مأمن. لكن ماذا عن كنوز تدمر التي بقيت فيها في ظل اجتياح «تنظيم الدولة الإسلاميّة» لها أخيراً؟ يؤكد مأمون عبد الكريم، المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا أن «المئات من القطع الهامّة نُقلت قبل المستجدّات الأخيرة إلى مناطق آمنة»، لكنّه يوضح في الوقت نفسه أنّ «تلك الإجراءات الاحترازيّة لا تعني أن كل شيء على ما يُرام». يقول عبد الكريم لـ «الأخبار» إن «الأحداث في تدمر كانت متسارعة على نحو لم يُتح الفرصة لتحريك القِطع الكبيرة من المتحف. ما زالت التماثيل الضخمة، والأسرّة الجنائزية، والتوابيت موجودة هناك». يبدو الرّجل مواكباً لكل الأنباء المتعلقة بتدمر، يقول: «هم نشروا ما يثبت أن المدينة الأثرية بخير حتى الآن. ونحن لدينا مصادر محليّة أكدت ذلك، لكن المشكلة أنهم غير مضمونين مع الوقت. في أي لحظة، يمكن لهم أن يقوموا بأفعال تدميرية». يشير إلى «تصريحات صوتيّة نُقلت أخيراً عن أحد أمراء داعش، واسمه أبو الليث يؤكد فيها العزم على تدمير التماثيل، أو الأصنام وفقاً للتسمية التي يعتمدونها»، ويضيف: «هناك مخاطر كبيرة على بقايا المتحف. وعلاوة على ذلك، ثمّة مخاطر كبيرة تتعلّق بالمدينة الأثريّة بأكملها».
بدوره؛ يؤكد الباحث ملاتينوس جغنون أنّ المخاطر المحدقة كبيرة نظراً للغنى الاستثنائي لتدمر. يقول جغنون لـ «الأخبار» إنّ «تدمر متحف مفتوح، كل ما فيها قيم، كل عمود وكل تاج وكل نتوء فيها له قيمة عالية». ويضيف: «تتميز تدمر عن كل حواضر العالم القديم بمسألة النقوش الأثرية باللغتين اليونانية والآرامية التدمرية. هذا إرث عظيم جداً. كلّ الأعمدة متوجة بنقوش، والنقوش عبارة عن وثائق تؤرخ أحداثاً ووقائع وتواريخ». ثمّة أنواعٌ خمسة للنقوش التاريخيّة: «تكريميّة، تكريسيّة، رسميّة، دينيّة، وجنائزيّة. كل هذه الأنواع موجودة في تدمر، على الأعمدة وأبدان الأعمدة، والنتوءات التي يظن بعضهم أنها موجودة لوضع مشاعل، لكن وظيفتها الفعلية حمل التماثيل التكريمية»، وفقاً لجغنون. يشير أيضاً إلى «المكانة الاستثنائيّة والفريدة للمدافن التدمرية، لا سيّما المدافن البرجية، التي تحتوي على تماثيل يمكن أن تتعرض للتخريب».

تصريحات صوتيّة نُقلت
عن أحد أمراء داعش يؤكد فيها العزم على تدمير التماثيل

لكن ماذا إذا وقع الفأس بالرأس؟ تُعتبر إعادة بناء المواقع الأثريّة اعتماداً على بقاياها ممارسةً حفاظيّة معروفة، سبق مثلاً أن طُبقت في بناء مدينة دريسدن الألمانيّة عقب الحرب العالميّة الثانية، ويتطلّب ذلك ألّا تتحرّك الأنقاضُ من مكانها، كما يتطلّب بطبيعة الحال أن يكون المعلمُ المُدمّر موثّقاً. يؤكد مأمون عبد الكريم أنّ «كلّ شيء في تدمر موثق بدقّة متناهية. المباني والقطع، جميع المخططات والتفاصيل المعمارية التنقيبيّة». لكنه يشرح: «أن إعادة الإعمار لن تقدم لنا شيئاً أصيلاً، بل مجرّد نسخ لا يمكن لها أن تحظى بالقيمة نفسها. كما أن ذلكَ قد يُفيد في الأعمدة والمباني الضخمة فقط، وليس في التفاصيل الدقيقة». كلامٌ ينسجم مع كلام الباحث جغنون الذي يرى أن «أخطر ما في الأمر هو التخريب المتعمّد، وتشويه النقوش. إذا حصل شيءٌ من هذا، فلن يكون التعويضُ ممكناً. أما أنّ عموداً سقط وما إلى ذلك، فهذا أهون الشرور. من الممكن إعادة البناء كما حصل في أفاميا مثلاً، فشارع الأعمدة هناك أعيد بناؤه في ثمانينيات القرن الماضي».
ما الذي يمكن فعله؟ لا تقتصر المخاوف على مخاطر التدمير والتشويه، بل تتعدّاها إلى مخاطر التنقيب المافيوزي، تمهيداً للسرقة والتهريب، وفقاً لما يؤكده مأمون عبد الكريم لـ«الأخبار». ويوضح: «نحن نتخوف من المرحلة التالية. إذ يُتوقع أنه حال استتباب سيطرة داعش ستتحول إلى منطقة رخوة، وتغدو وجهةً لعصابات ومافيات محلية ودولية، تدفعُ أمولاً لداعش مقابل السماح لها بالتنقيب على نحو مماثل لما حدث في موقع مملكة ماري، وموقع دورا أوربوس. هناك، استُخدموا البلدوزرات وقاموا بحفريات عشوائيّة». وكيلا يبقى الحديث محصوراً في مدار الندب والاستغاثة، لا بدّ من التساؤل عمّا يمكن فعله، لتأتي الإجابة متشائمة وواقعيّة: «منذ عام 2012 ونحن نخاطب المؤسسات والمنظمات الدولية، والرأي العام الدولي. للأسف، كانت هناك مشاعر أولية فحسب، إضافة إلى بعض التحركات على مستوى المؤتمرات، ومراقبة الأسواق. لكن لا أحد يتحرّك بشكل رادع». نسأل عبد الكريم: هل من إجراء يمكن للحكومة السورية كالمطالبة بوضع الأوابد تحت اتفاقية لاهاي مثلاً (راجع البرواز)؟ يجيب «في الأزمة السورية، لم تحترم أي اتفاقية دولية. خذ مثلاً قرار مجلس الأمن 2199 الصادر في شباط (فبراير) 2015، الذي نطالب بتطبيق عملي له. وهو يفرض على دول الجوار ضبط حدودها والتصدي لحركة المافيا ولصوص الآثار». ويضيف عبد الكريم خصوصاً إلى تركيا، حيث «تلعب الحدود التركية دوراً أساسياً في سرقة وتهريب كنوز سوريا». وإزاء هذا الواقع، يكرّر عبد الكريم تعويله على «المجتمع المحلي، وعلى النخب الاجتماعية الموجودة هناك. نتمنى أن تستطيع لعب دور فاعل على أرض الواقع، كما حصل في بصرى والمعرة، وألا يفشل كما في ماري ودورا أوروبوس».




اتفاقيّة لاهاي

اعتُمدت اتفاقية حماية التراث الثقافي في حالة نزاع مسلح في لاهاي (هولندا) عام 1954 إثر الدمار الهائل الذي أصاب التراث الثقافي في الحرب العالمية الثانية. أدى الدمار الذي لحق بالممتلكات الثقافية إبان النزاعات المندلعة في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي إلى تسليط الأضواء على ضرورة إدخال بعض التحسينات على تطبيق الاتفاقية التي خضعت لعملية مراجعة بدأت في عام 1991 وأسفرت عن اعتماد بروتوكول ثان لاتفاقية لاهاي في آذار (مارس) 1999. لا تتمتع الاتفاقيّة بصفة إلزامية، بل تعتمد على «احترام الأطراف المتعاقدة السامية للاتفاقية». ورغم التباين في توصيف ما يحصل في سوريا، غير أن الاتفاقية تنطبق على الحالة السورية. وفقاً لتوصيف الحكومة السورية التي تعتبر نفسها تخوضُ حرباً مع أطراف مدعومة من جهاتٍ خارجيّة، تنطبق المادة 18 من اتفاقية لاهاي التي تنص على أنه «تطبق هذه الاتفاقية في حالة إعلان حرب أو عند نشوب أي نزاع مسلح بين طرفين أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة وإن لم تعترف دولة أو أكثر بوجود حالة الحرب». ووفقاً للتوصيف الأممي الذي يعتبر النزاع في سوريا نزاعاً محليّاً غير ذي صفة دولية، تنطبق المادة 19 من بروتوكول 1999 التي تنص على أنّه: «في حالة وقوع نزاع مسلح غير ذي صفة دولية في أرض طرف من الأطراف السامين المتعاقدين، يلتزم كل طرف من أطراف النزاع بأن تطبق - كحد أدنى - أحكام الاتفاقية الحالية المتصلة باحترام الممتلكات الثقافية، ويجوز لهيئة الأونيسكو أن تقدم خدماتها لأطراف النزاع».