كثيرة هي المرّات التي دخل فيها ريف حمص الشمالي حالة «ستاتيكو»، برغم احتوائه على مدن ومناطق خرجت عن سيطرة الدولة السورية في مرحلة مبكرة من الحرب، لكن المؤشرات والمستجدات على غير جبهة من جبهات الريف الشمالي توحي بأن المعارك المؤجلة لم تعد كذلك. وترتبط المعارك المستجدة خلال الأيام الأخيرة بعاملين أساسيين. الأول يتصل بمدينة سلمية التي تؤدي دوراً أساسياً وفاعلاً في حسابات الجيش السوري.
فهي بمثابة نقطة الارتكاز الخلفية الأهم في المنطقة الوسطى، ومركز الثقل الأساس في الطريق العسكري نحو محافظات الشمال، كما تتسم قوات الدفاع المحلي في سلمية بفعالية كبيرة في التصدي لهجمات «داعش»، ويمكن اعتبار سلمية بمثابة خط دفاع أول عن مدينة حماة (وخاصة في وجه داعش من جهة الشرق). اللافت أن الهجمات الأخيرة التي شنّها مسلّحو ريف حمص الشمالي ركّزت على وجه الخصوص على طريق حمص – سلمية (كان آخرها مهاجمة مسلحي «جبهة النصرة» و«جند الحق» لحاجز السنيدة على طريق سلمية)، ما يوحي بأن المطلوب وضع سلمية بين فكي «داعش» من جهة، و«النصرة» وباقي المجموعات من جهة أخرى (برغم الحرب المفتوحة بين الطرفين). كذلك، يُعد التماس بين ريف حمص الشمالي وريف حماة الجنوبي عاملاً استراتيجياً هامّاً، وخاصة بالنسبة إلى «جبهة النصرة» التي تحظى بحضور جيد، وعلاقات قوية مع بعض مجموعات ريف حمص الشمالي. وهو أمرٌ توضحت معالمه منذ مهاجمة «النصرة» مقار «لواء ابن الوليد» في الرستن (راجع «الأخبار»، العدد 2458). ولا يُستبعد أن تسعى «النصرة» إلى استغلال هذا الحضور لشن هجمات نحو ريف حماة الجنوبي، بالتزامن مع أخرى تشنها في ريف حماة الشمالي (الذي يتصل بمناطق نفوذ النصرة وجيش الفتح في محافظة إدلب). وتُمثل هذه الهجمات خلاصة خطة «فتح حماة» التي تؤكد مصادر ميدانية معارضة لـ«الأخبار» أنّها مُدرجة على جدول مشاريع «النصرة» في انتظار ضوء أخضر «تأخّر لأسباب مجهولة». ويشير مصدر آخر إلى «رغبة تركية قديمة في تجنيب مدينة حماة التبعات المباشرة للحرب قدر الإمكان»، وهو عامل محتملٌ من عوامل تأخر تنفيذ الخطة المذكورة، مع الأخذ في عين الاعتبار المستجدات السياسية الداخلية في تركيا، لكن تأخر «الضوء الأخضر» لا يعني أن المخطط طوي إلى الأبد، فبرغم صعوبة إقدام «النصرة» على خطوة مماثلة من دون موافقة إقليمية، غيرَ أن هذا السيناريو يبقى قائماً في ظل ما عُرف عن التنظيمات «الجهادية» من فتح معارك بقرارات داخلية في ظروف معينة (حتى لو أخذت المعارك شكل مغامرة غير محسوبة). كذلك؛ تجدر الإشارة إلى أن الأيام الأخيرة شهدت بداية الترويج لفكرة تشكيل «جيش الفتح في ريف حمص الشمالي لنصرة المستضعفين». ودعا المروجون للفكرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى تشارك «جبهة النصرة، وحركة أحرار الشام، وفصائل الجيش الحر» في التشكيل.

«داعش» و«الثوّار» و«الرمزيّة»

تتحلّى بعض مناطق الريف الشمالي برمزيّات خاصة، فمنطقة الدار الكبيرة على سبيل المثال باتت في نظر أوساط المجموعات المسلّحة «عاصمة مؤقتة للثورة» منذ انتقل إليها مسلّحو حمص القديمة تطبيقاً للاتفاق الشهير (أيار 2014). وقد انتظم هؤلاء لاحقاً في تشكيل حمل اسم «فيلق حمص»، وأعلنوا أن هدفهم «السّعي إلى تحرير حمص وإعادتها عاصمة للثورة السورية». أمّا مدينة الرستن فتستمد رمزيّتها من كونها واحدة من أوائل المدن التي خرجت عن سيطرة الدولة. بينما يرى العديد من المسلحين المحليّين أنّ قرى دير فول، وعز الدين، وأم العمد، تُمثل رموزاً لهزيمة «داعش» في ريف حمص الشمالي منذ انسحب مسلحو التنظيم منها بشكل مفاجئ قبل 11 شهراً. وتبدو النقطة الأخيرة بمثابة جاذب إضافي لـ«داعش»، الذي عُرف عنه الحرص على الانتقام من هزائمه ولو بعد حين، وليس من المستبعد أن تولي خطط التنظيم المستقبلية هذه المناطق أهمية خاصة، على نحو مماثل لما فعلته سابقاً في المناطق التي انسحب منها التنظيم إبان استعار معاركه مع باقي المجموعات في ريف حلب، كما في عين العرب (ريف حلب الشمالي) وتل أبيض (ريف الرقة الشمالي) أخيراً. وتؤكد مصادر محليّة أن «المؤشرات على وجود خلايا نائمة موالية لداعش في الريف الشمالي كثيرة». ويقول أحد الأطباء الميدانيين في المنطقة لـ«الأخبار» إن «حوادث استهداف الثوار المحليين قد ازدادت في الفترة الأخيرة، وهناك أدلة على وقوف داعش وراءها». بدوره، يؤكد مصدر مرتبط بإحدى المجموعات المحلية الصغيرة في الرستن «وجود مجموعات في تلبيسة (المجاورة للرستن) تحتضن الدواعش». وأضاف المصدر: «حتى المجموعات الكبيرة هناك مُخترقة، ويوجد قادة موالون لداعش في صفوفها». وعزّز المصدر حديثه بالإشارة إلى حادثة وقعت أخيراً، حيث «فرّ أحد أمراء داعش واسمه رافد طه من سجن تابع لجيش التوحيد في تلبيسة، بعد أسبوع من اعتقاله. وهناك ما يؤكد أن فراره جرى بتواطؤ من أحد قادة التوحيد».

لعنة «الحل» و«داعش على الباب»

من التطورات الهامة خلال الأيام الأخيرة يبرز اثنان: أولهما إعلان «الفصائل المشكلة لغرفة نصرة المستضعفين في ريف حمص الشمالي» حل «الغرفة». أما الثاني فهو إعلان «المحكمة الشرعية في مدينة تلبيسة» حل نفسها. «الشرعية» وفي بيان الحل الذي أصدرته يوم الأربعاء أسهبت في تعداد الأسباب التي يمكن إيجازها بتكرار «ظواهر التمرد على الهيئة من الفصائل المسلحة». كذلك تحدثت عن إقدام بعض المجموعات على «سرقة قضبان الحديد المسحب من مؤسسة العمران، على الرغم من أن مفرزة الهيئة طلبت المؤازرة من جميع تشكيلات جيش التوحيد ولم يقم أي تشكيل بالاستجابة لندائها وتابع اللصوص عملهم بكل أريحية...». وأكد البيان «توقف العمل حتى يعلن جميع العسكريين الخضوع لشرع الله والتعهد بتنفيذ جميع القرارات الصادرة عن الهيئة». مصادر عدّة تحدثت إليها «الأخبار» رأت في قراري الحل (وخاصة قرار الهيئة) مؤشرات «على هيمنة الفوضى، واستفحال الخلافات» الأمر الذي «يُمهد الطريق أمام داعش للدخول على الخط».




الجيش يُحاصر «ناريّاً»

المجموعات المسلحة المحلية (ومعظمها مرتبط بتحالفات مع «النصرة» و«أحرار الشام») تبسط سيطرتها على حوالى 85% من ريف حمص الشمالي. ويعمل الجيش والقوات الرديفة على عزل أكبر ثلاث مدن خارجة عن سيطرته في الريف الشمالي، مستفيداً من تمركزات تتيحُ له قصف تلك المدن بشكل مستمر. مدينة الرستن (كبرى مدن الريف الشمالي) هي أهم المناطق الخاضعة لهم، ورغم خروجها بالكامل عن سيطرة الدولة السورية، غير أنها خاضعة لسيطرة نارية مصدرها كتيبة الهندسة المُشرفة على سد الرستن. ويتشابه الأمر في مدينة تلبيسة، حيث يحافظ الجيش السوري على تمركز هام جنوبها وهو «حاجز ملّوك»، ويمثل الحاجز فاصلاً بين مسلحي تلبيسة ومدينة حمص. أما مدينة الحولة الخاضعة أيضاً لسيطرة المجموعات، فمحاطة بتمركزات للجيش والدفاع الوطني في القرى الخاضعة للدولة السورية. تنظيم «داعش» يقتصر نفوذه المُعلن على عدد من مناطق الريف الشمالي الشرقي، مع احتفاظه بخلايا نائمة في معظم المناطق الأخرى.